جعفر الصادق (عليه السلام) مؤسس العلوم العرفانية في الإسلام
تقول بعض الصوفية العارفين إن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) تعلم العرفان من أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) وأخذه عنه، وهم يعدونه حلقة هامة في سلسلة الصوفية والعرفان
]ومن هؤلاء الشيخ فريد الدين العطار النيسابوري(1) صاحب كتاب (تذكرة الأولياء) وتجدر الإشارة هنا إلى أن العرفان بمدلوله الحالي وبالمعنى الذي نعرفه عنه لم يكن له وجود في القرن الأول الهجري. فإن وجد آنذاك شيء من مبادئ هذا العلم، فإن مدلوله يختلف عما هو عليه اليوم
وليس ثمة ريب في أن التفكير العرفاني موجوداً لدى بعض علماء المسلمين، دون أن يشتهر به أحد منهم. ودون أن يعرف أي مكتب من مكاتب العرفان الموجودة في هذا العصر، ولم نر من القادة أو المفكرين من تزعم مجموعة من المريدين أو سمى نفسه قطباً أو غوثاً أو ما إلى ذلك. ثم إن العرفان في الإسلام كان ينبوعاً فياضاً في الباطن والقلب. ولم تكن بين العرفان والدراسات التقليدية علاقة. ولم يكن المريد أو القطب يدرس ويعلم المريدين العرفان، بل كان العرفان أسلوباً للحياة وطريقة للعمل الجاد في جو من الحب والعشق. وكان العارف يقول: أمح الأوراق إذا كنت تصحبنا في الدروس والرحيل، لأن حديث الغرام والعشق غير موجود في الدفاتر(2)[ومنذ القرن الثاني للهجرة بدأ العرفاء والزهاد يتوزعون حول الأقطاب والمرشدين، فأبدعوا وأسسوا مكاتب عرفانية
ويقول صاحب (تذكرة الأنبياء) وهو من الكتب المشهورة في أحوال العرفاء والصوفية وقد جمع فيه مؤلفه الروايات الموثوق بها والضعيفة يقول إن بايزيد البسطامي العارف الشهير كان من تلامذة جعفر الصادق (عليه السلام). أخذ عنه العرفان. وساق الحديث عنه على النحو التالي: إن بايزيد البسطامي، بعدما تعلم العلوم المتداولة، اتجه إلى العرفان، وطاف حول العالم بحثاً عن العرفاء العظام، وتحمل المشاق والحرمان ثلاثين سنة، وحضر مجلس مائة وثلاثة عشر عارفاً كان آخرهم الإمام الصادق (عليه السلام). وكان يحضر درسه كل يوم معداً نفسه للاغتراف من منهله ما أمكن، فسأله الصادق يوماً: ناولني الكتاب الذي في الرف فوق رأسك.
فسأل بايزيد: وأي رف هذا؟
فقال له الصادق: تسألني عن الرف وأنت تحضر كل يوم هنا من زمن بعيد؟
فقال بايزيد: إنني لم أشاهد غيرك هنا، لأنني أتيت للقائك والاستماع إلى حديثك.
فقال له الصادق: يا بايزيد، أنت كملت الدرس والرحلة، فعد إلى بلادك وعلم الناس ما تعلمت. فقام وعاد إلى بسطام في يومه.
ولعل صاحب (تذكرة الأنبياء) كان يعتقد بصحة هذا الحديث. ولكنه لم يراع التسلسل الزمني وتتابع الحوادث، ولولا ذلك لقلنا اختلق هذه الرواية أو أن غيره اختلقها ونقلها هو عنه، لأن الإمام الصادق (عليه السلام) كان مشتغلاً بالتعليم والتدريس في المدينة في النصف الأول من القرن الثاني، وتوفي سنة 148 هجرية، في حين أن بايزيد البسطامي كان يعيش في القرن الثالث وتوفي سنة 261 هجرية.
إن مبادئ العرفان ومكاتبه في القرن الثامن الهجري لم تكن تزيد على سلوك العارف وقوة تخيله وتأمله، ومن هنا يمكن القول بأن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان له خيال وتفكير عرفاني عميق، وإذا كان من آثار العرفان على العارف تغيير أسلوب حياته والتأثير في خلقه وسلوكه وأدبه، فلسنا نشك في أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان بهذا رائداً وإماماً للغير، ولكن لا علاقة لهذا السلوك المعنوي بالعلوم التجريبية في الإسلام، وهو أول عالم جمع بين النظرية العلمية والتجربة العملية، ولم يكن يقبل أو يؤيد نظرية في الفيزياء أو الكيمياء إلا بعد التحقق منها بنفسه في التجربة العملية والاختبار، وعالم كهذا، لا يهتم بعلوم نظرية بحتة اهتمامه بالعلوم التجريبية.
وفي التاريخ الإسلامي أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان أول عالم تحدث عن الفيزياء والكيمياء، وهو في نفس الوقت يعد في طليعة العرفاء والزهاد. حتى أن الإمام الزمخشري(3) بعدما أثنى عليه في كتابه (ربيع الأبرار) ثناء كريماً، عده من طلائع العرفاء وزعمائهم.
وكان العطار النيسابوري صاحب (تذكرة الأولياء) يرى بدوره أن الصادق (عليه السلام) رائد للعرفاء، ولكن شتان بين ما سجله الزمخشري وهو عالم مدقق، وبين ما أورده العطار، وهو صوفي جماعة، يجمع بدافع من المحبة كل ما سمع وقرأ، ومؤلفه يثبت أنه كان مغرماً ومتيماً بحب العرفاء والصوفية العظام، فهو يكتب عنهم بعين الرضا والقبول، وبالمغالاة أحياناً، ولولا حبه هنا لما وقع في هفوات.
ويمكن القول إن القلم في يد الزمخشري يتحكم فيه العقل والدقة، أما القلم في يد العطار فيتحكم فيه الحب والعشق، وأياً كان الأمر، فالصادق (عليه السلام) يعد في تاريخ العلوم الإسلامية من مؤسسي علم العرفان.
ولا شك في أن دروسه في العرفان كان يحضرها عدد من غير المسلمين، فقد قيل إن نفراً من الصابئة(4) قرؤوا عليه، والصابئة بآرائهم الدينية هم وسط بين المسيحية واليهود، وكانوا يعدون من الموحدين في الإسلام، وكان بعضهم يتظاهر بالإسلام دفاعاً عن النفس أو حرصاً على المال، وكان مركزهم (حران) غرب بلاد ما بين النهرين (العراق)، وكان هذا المركز يسمى قديماً عند الأوربيين ب (كارة)، ومن عادات الصابئة تعميد الطفل بعد ولادته وتسميته. جاء في دائرة المعارف الإسلامية(5) إن كلمة صابئي مأخوذة من صب الماء وغسله، لأن الصابئة تغسل الطفل بعد الولادة بتعميده في الماء، وكانت الصابئة تقول بنبوة يحيى المعمدان (يوحنا) بن زكريا.
ويقول العطار النيسابوري إن أناساً من جميع القرى كانت تحضر درس الإمام الصادق (عليه السلام) وتنهل من معينه، ويقول الشيخ أبو الحسن الخرقاني(6) إن المسلم والكافر استفاد كلاهما من فضل الصادق (عليه السلام) وعلمه.
ولا ندري هل كان تسامح الصادق (عليه السلام) مع غير المسلم راجعاً إلى عرفانه وزهده، أو أنه كان ينظر إلى الأمور بمنظار شامل، وكان يريد الخير والعلم للجميع ولهذا فهو يسمح لمن حضر درسه بأن يستمع إليه ولو كان غير مسلم، وفي دائرة المعارف الإسلامية أن هناك من يقول أن جابراً بن حيان ـ وهو من أشهر أصحاب الصادق (عليه السلام) ـ كان من الصابئة أيضاً.
وكان الصابئة في درس الإمام مولعين بتحصيل العلم، وكانوا يبذلون قصارى جهدهم لاستيعاب الدروس وفهمها، وبهذا استطاعوا وضع أسس علمية ثقافية للصابئة، وبمقارنة ثقافة الصابئة قبل عهد الصادق (عليه السلام) وبعده نرى فرقاً شاسعاً كالفرق بين النور والظلمة.
وكان الصابئة قبل الصادق (عليه السلام) فئة منطوية على نفسها، لا يعرف عناه شيء كثير كما أنهم هم أنفسهم لم يكونوا يعرفون الكثير ولم يكن علمهم يتجاوز علم البدوي من العرب، ولكن اشتهر بعد الصادق (عليه السلام) كثير منهم في ميادين الكيمياء والطب والنجوم، وأصبحوا أمة ذات ثقافة وشهرة. ويقع الباحث في دوريات المعارف والمعاجم على أسماء كثير منهم.
وإلى الصادق (عليه السلام) يعزى الفضل في أن الصابئة الغارقة في الجهل والحرمان قد أصبحت طائفة متقدمة متمدنة اشتهر كثير من أبنائها في ميادين العلوم المتباينة، كما انتفع العالم بثقافتهم وعلمهم، وبفضل إشعاع مدرسة الصادق (عليه السلام) بقيت لهؤلاء القوم شخصيتهم الخاصة وكيانهم المستقل واشتهر بعضهم وذاع صيته، وما زال البعض منهم يعيش في المنطقة نفسها (حران)، وإن كان عددهم قد تواضع عما كان عليه قبلاً.
وكما أسلفنا بيانه، هناك إجماع بين الشيخ أبي الحسن الخرقاني والزمخشري والعطار النيسابوري على أن جعفراً الصادق (عليه السلام) هو قدوة العرفاء في التاريخ الإسلامي، ولا غرو أن يذكروه بعظيم الإجلال والاحترام والود.
والخرقاني عالم معدود مشهور من علماء التصوف والعرفان، وقد تناول في مباحثه أصول العرفان في الهند والشرق قبل الإسلام، ولكن غابت عنه معالم التصوف والعرفان في فارس قبل الإسلام إما لعدم إلمامه بمبادئ الزردشتية، أو لعدم توافر المراجع والمؤلفات الزردشتية لديه.
وفي هذه الفترة، أي في النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الهجريين، كانت اللغة البهلوية شائعة، في كل مكان، وكان الخرقاني مطلعاً على مبادئ اليهودية والمسيحية.
وبفضل البحوث التي أجرتها نخبة من المستشرقين الفرنسيين من القرن السابع عشر الميلادي وإلى يومنا هذا، وبفضل النصوص الهندية القديمة التي ترجمت إلى اللغات الحية، وأهمها كتاب (فيداس) المقدس، هان علينا أن نعرف عمق الصلة بين ثقافة الهند القديمة وثقافة فارس القديمة، كما عرفنا أن هذين البلدين كانا ينهلان من معين مشترك وأن التفكير الزردشتي قد تأثر بالفكر الهندي، ولا ريب في أن الزردشتيين قد استفادوا في آرائهم العرفانية والصوفية من عرفان الهنود وتصوفهم وتأثروا بهما أكثر مما تأثروا أو استفادوا من أي مصدر آخر.
إن مذهب زردشت القائل بمبدأين(7) هما مبدأ الخير ومبدأ الشر، يختلف اختلافاً جذرياً عن الهندوكية القائلة بالتثليث، فإن مذهب زردشت قد بنى تعاليمه على الثنائية، وكان يدين بأن العالم مبني على الأضداد وأن لكل شيء قطبين هما القطب المثبت والقطب المنفي.
ولو أن الشيخ الخرقاني حالفه النجاح في التفرقة بين العرفان والتصوف في فارس والعرفان في مدرسة الإسكندرية، لأدرك أن العرفان عند زردشت نابع من ثنائية التفكير، في حين أن العرفان الذي أرسى الصادق (عليه السلام) معالمه وأوضح سبله في مدرسته هو عرفان توحيدي لا أثر للثنائية ولا للتثليث فيه، فعرفان الصادق (عليه السلام) هو أسمى ما وصل إليه الفكر البشري لبلوغ الصفاء والتكامل النفسي والروحي. وكان مذهبه من السمو والرفعة بحيث تقاصر عن فهمه وتحليله وتبنيه كثير من الناس سواء في عصره أو في العصور التي تلته عندما تشعب العرفان وأصبحت له مكاتب وفرق متعددة.
تميز عرفان الصادق (عليه السلام) عند ظهوره بالتوحيد، وسيظل هذا ديدنه نابذاً الثنائية والتثليث، تاركاً العلو والسرف في تعريف صفات الخالق أو المخلوق كما حدث للعرفان الإسلامي أحياناً في أدوار متأخرة.
وسنرى فيما بعد أن الغلو قد دفع ببعض المشايخ والعرفاء إلى الانحراف، ففاه بعضهم بعبارات وأقوال انبعثت منها الشرك والكفر، حتى انفض عنهم كثير من أنصارهم وأتباعهم، أو هم قد وقعوا في شطحات وطامات كبرى( انتهت ببعضهم إلى القول: (سبحاني سبحاني ما أعظم شأني، ليس في جبتي سوى الله)(9)، ولهذا رأينا أن العلامة الزمخشري ينفر منهم وينتقدهم ـ أي الطبقة المغاليةـ ولكن عرفان الصادق (عليه السلام) كان بعيداً عن المبالغات والترهات، وكان مبنياً على أساس توحيدي في تنزيه الخالق عن صفات المخلوق، والمخلوق عن الخالق، ولهذا تبعته الشيعة بأسرها وكثير من أهل السنة أيضاً.
يرتكز العرفان عند الصادق (عليه السلام) على التوكل على الله تعالى وتنفيذ أحكامه وأوامره، والامتثال لنواهيه دون إهمال شؤون الدنيا أو تركها لئلا تضطرب الحياة اليومية وتفقد صفاءها وسعادتها، فهو لا يوصي بترك الدنيا للوصول إلى السعادة بل يرى أن السعادة هي في التوكل على الله والتقوى، وتقبل حظوظ الدنيا المشروعة(10).
وليس في عرفان الصادق (عليه السلام) كلام عن وصول المعارف إلى الله وهو التفكير الأساسي الذي دان به كثير من الصوفية والعرفاء في القرون التي تعاقبت بعد عصر الصادق (عليه السلام) فالوصول إلى الله عند الصادق (عليه السلام) يطابق تماماً ما صوره القرآن الكريم أي أن الإنسان هو صنيع الله ومخلوقه وهو منه وإليه يرجع. وليس معنى هذا أن الإنسان يلتحق بالذات الإلهية ويصبح جزءاً منها، ولكن معناه أن الإنسان مخلوق ومصنوع ويظل هذا وضعه دائماً ويستحيل عليه أن يكون خالقاً، ومتى مات رجع إلى الله وبرجوعه إليه تعالى يكون شديد القرب من الخالق.
على أن التفكير العرفاني انجرف عن هذا الاتجاه بعد الصادق (عليه السلام)، وفسر العرفاء الآية القرآنية (إنا لله وإنا إليه راجعون) بمعنى أن الإنسان سيلحق بربه بعد موته، وقالوا لا يلحق الإنسان به سبحانه وتعالى في حياته؟ وانطلقوا من هذه العقيدة يقولون أن الإنسان في مذهبهم يلتحق بعد موته بالقدرة الأزلية الأبدية، فيبقى حياً، ويشاهد الأمور الجارية في الدنيا، ويرى أهله وأصحابه، وتكون له قدرة على مساعدتهم في حل مشكلاتهم(11).
ولا يقتصر الاعتقاد بحياة الإنسان بعد الموت على المسلمين وحدهم، وإنما ذهبت إلى هذا الاعتقاد الأديان السابقة على الإسلام. وإذا استثنينا المانوية والباطنية، لم نجد في الأديان القديمة كلها ما يقول بعدم وجود حياة بعد الموت، فحتى الأديان الهندية والبوذية التي تحرق جسد الميت، تؤمن بأن هناك عالماً آخر بعد الموت سيبقى فيه الإنسان حياً. أما المانوية والباطنية فلا تؤمنان بيوم المعاد على هذه الصورة، وإن كان دعاة الباطنية تبينوا بعد وفاة حسن الصباح أن الإيمان بالمعاد وفكرة العقاب يلعبان دوراً كبيراً في نهي الإنسان عن ارتكاب المعصية وإتيان السيئ من الأعمال، وعلى هذا شرعوا ينادون بصورة ما من صور يوم المعاد.
وفي بعض الأديان الأخرى كالأديان التي كانت سائدة في مصر القديمة، ارتبطت فكرة الثواب والعقاب بحياة الإنسان في هذا العالم، أي أن الإنسان بمجرد موته يكون قد نال ثوابه أو عقابه.
ولكن من عقائد بعض الأديان الأخرى أن الثواب والعقاب يجيئان بعد الموت بفترة، فيجوز إذن القول بأن فكرة المعاد واردة على نحو أو آخر في معظم الأديان باعتبارها عنصراً أساسياً فعالاً في نهي الإنسان عن الخطأ أو اقتراف المعاصي وفي القيام بدور الوازع الداخلي الأمين الذي يكبح جماع الإنسان.
وللدكتور (لاي وينك أستون)، الذي كان أول من اكتشف منابع النيل في أفريقيا السوداء في القرن التاسع عشر، مذكرات نفسية عن رحلاته في أواسط أفريقيا، وقد أهداها إلى الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، وقد ذكر أستون في هذه المذكرات أنه لاحظ طوال مدة إقامته بين مختلف القبائل الإفريقية أن هذه القبائل تؤمن بحياة أجدادها، وفي رأي بعضها أن الآباء المتوفين يتمتعون بمقدرة خاصة في التأثير في حياة الأحياء من الأبناء وسواهم، كما لاحظ أن السحرة في أفريقيا كانوا يصورون لأهل الميت صورة واضحة لتفكيره وإرادته.
وذهب البعض إلى القول بأن عقيدة المعاد أو الحياة بعد الموت هي من العقائد الفطرية لدى البشر، وأنها وجدت مع الإنسان من أقدم العصور وفي جميع الأديان السماوية. صحيح أن هذه العقيدة ليست من أصول البيولوجيا أو وظائف الأعضاء كالجوع أو العطش، فيحس بها الإنسان بحكم طبيعته المادية، ولكنها قد لازمت المجتمع الإنساني عامة في أدواره المختلفة حتى ليمكن القول بأن الفكرة لم تنفصل عن الإنسان الاجتماعي، فإن فقدها إنسان كان كمن فقد الحياة في المجتمع البشري بغض النظر عن مستواه.
وتستند فكرة المعاد عند جميع المذاهب إلى الاعتقاد بأن هناك حياة ثانية بعد الموت، وقد لعبت هذه العقيدة الفطرية دوراً هاماً في نفس الإنسان فكانت وازعاً داخلياً أو شرطياً سرياً ينهاه عن اقتراف السيئات.
كان السارق في مصر القديمة يعاقب حسب القوانين السارية، أما في العالم الغربي(12)، أي العالم الثاني، فكان يبقى في الظلام دون أن يستضئ بنور الشمس أو بالمصابيح.
وعند زردشت أن الإنسان في عالم الآخرة يمر على جسر (جنوند) (Chanvand)، فإن كان مرتكباً للمعاصي في هذه الدنيا، تعذر عليه اجتياز الجسر وسقط(13).
ثم إن المكاتب العرفانية في المشرق استفادت من عقيدة المعاد عند المسلمين فأوجدت هذه العقيدة أرضية صالحة للتربية النفسية عند العرفاء، لأن الحياة الأفضل بعد الموت تتوقف على سيرة الإنسان في هذه الدنيا(14). بل إن العرفاء من نهاية القرن الثاني الهجري تجاوزوا هذا الحد، وذهبوا إلى القول بأن في وسع الإنسان بسلوكه وعرفانه أن يصل إلى أعلى المراتب والدرجات في هذه الدنيا، وكانت الفكرة قائمة على فكرة المعاد، إذ أن من رأيهم أن الموت هو مجرد تغيير للمجلس، وأن الحياة مستمرة بعد الموت، فإذا كانت الحياة مستمرة، فلم لا يرتقي الإنسان إلى أعلى مراتب الكمال والوجود في هذه الدنيا، مترقباً بلوغ هذه المراتب بعد الموت؟ فأصبح الهدف الأساسي عند كثير من العرفاء هو الوصول إلى الملكوت الأعلى أو إلى المراتب الإلهية، أو إن شئت فقل المكانة الإلهية.
ولكن الصادق (عليه السلام) لم يقل أن الإنسان سيصل إلى مرتبة الإله في هذه الدنيا أو في غيرها، وكان في تفكيره هذا مستند إلى أصلين:
أولهما، الاعتقاد بحياة الإنسان بعد الموت.
ثانيهما، اشتراك الوجود لا وحدة الوجود.
ونظرية وحدة الوجود التي تعتبر أهم عنصر وأقوى أساس يستند إليه التفكير العرفاني والصوفي لها جذورها في الشرق، وتنبع من عرفان الهند وفارس، ومنهما انتقلت إلى أوربا بعدئذ، ولكن جعفراً الصادق (عليه السلام) لم يقل بوحدة الوجود أبداً، وكان يرى أن الإنسان المخلوق، هو شيء، والخالق (الله سبحانه) شيء آخر. أما القائلون بوحدة الوجود فلم يعينوا حداً فاصلاً بين وجود الإنسان وغيره من الموجودات وبين وجود الله، وفي زعمهم أن الوجود يشبه الشمس التي أطلقت ضوءها من خلال زجاج ملون فانعكس بألوان شتى، فلئن اختلفت ألوان ضوء الشمس، فكلها صادرة من منبع واحد، وفي زعمهم أيضاً أن الموت لا يعدو أن يكون رجعة إلى الأصل، كماء المطر أو قطر الندى إذ يلتحق بالبحر، وهو منه.
1 - فريد الدين محمد العطار النيسابوري الذي اشتهر بالشيخ فريد الدين ولد سنة 540 هجرية واستشهد في هجوم المغول على نيسابور سنة 618ه. وهو من أشهر شعراء الصوفية والعرفاء في تاريخ إيران. له من المؤلفات: منطق الطير، وإلهي نامه، وأسرار نامه وغيرها من الدواوين. وكتابه (تذكرة الأنبياء) ألفه في تاريخ العرفاء والصوفية العظام، وهو من أشهر الكتب وأقدمها في هذا الميدان. (المترجم).
2 - أصل الحديث بيت شعر بالفارسية هو: بشوي أوراق أكر همدرس مائي.. كه درس عشق در دفتر نباشد.
3 - هو الإمام جار الله محمود بن عمر أبو القاسم الزمخشري، ولد في زمخشر عام 467 وتوفي 538 هـ (1144 م)، وهو إمام عصره في اللغة والنحو والبيان والتفسير، سموه جار الله لأنه جاوره بمكة. كان معتزلي الاعتقاد، ومن مؤلفاته: المفصل في النحو، والكشاف عن حقائق التنزيل في التفسير وقد عرف به فهو صاحب الكشاف وكفى، والفائق في غريب الحديث، وأساس البلاغة في اللغة، وأطواق الذهب، ونوابغ الكلم، وربيع الأبرار في التراجم.
4 - الصابئة ملة تؤله الكواكب، ومنهم من يرى نفسه موصوفاً في القرآن بالصابئة.
5 - الأصل الفرنسي Encyclopaedia Islamica.
6 - الشيخ أبو الحسن الخرقاني من أئمة العرفاء والصوفية، ولد سنة 352 للهجرية في قرية خرقان من توابع بسطام، وأخذ العلم والتصوف والسلسلة من الشيخ ابن العباس أحمد بن محمد القصاب الأملي. توفي بخرقان ودفن بها سنة 425 للهجرة.
7 - في رأي البعض أن الزردشتية وثنيون لقولهم بمبدأ الخير والشر. والشيطان في عرفهم (واسمه أهريمن) يمثل مبدأ الشر، وينبغي على الناس اجتناب وساوسه واندفاعاته، فالخوف من الشيطان (أهريمن) أو اتقاء شره ليس دليلاً على أن الزردشت جعلوا منه إلهاً ثانياً أو نسبوا إليه القدرة في التصرف في هذا الكون وفي تاريخ الفتوحات الإسلامية أن المسلمين عدوا الزردشتية من أهل الكتاب وفرضوا عليهم الجزية وتركوهم على حريتهم الدينية.
8 - جمعت هذه الكلمات والمصطلحات في كتاب ب (شطحات الصوفية).
9 - ينسب هذا الكلام وغيره من هذا القبيل إلى بايزيد البسطامي.
10 - وكان هذا منهج الأئمة قبله، فقد ذكر الإمام محمد عبده في شرحه على نهج البلاغة: إن علاء بن زياد الحارثي ـ وهو من أغنياء البصرة ـ جاء إلى علي بن أبي طالب عليه السلام يشكو أخاه عاصماً ابن زياد:
فقال علي (عليه السلام): وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال علي (عليه السلام): علي به، علي به، فلما جاء به قال له: يا عدي نفسه. (عدي تصغير عدو) لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟ قال: ويحك إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقيره (يقدروا: أي يقيسوا ولا يتبيغ أي لا يهيج). راجع (نهج البلاغة) شرح الإمام محمد عبده، ج3 ص400ـ 401، طبع دار الأندلس بيروت لبنان.
11 - كان من المفروض أن يورد مصدر هذا الكلام، فهو ليس عقيدة لكل صوفي أو عارف.
12 - في مصر القديمة، كانت المدن مبنية على ضفاف النيل، والمقابر في الضفة الغربية من النيل، فإن أرادوا الحديث عن الآخرة، أشاروا إلى الجانب الغربي للنيل.
13 - عند المسلمين الصراط الممدود بين الجنة وبين النار.
14 ـ باعتبار أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراَ يره).
تقول بعض الصوفية العارفين إن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) تعلم العرفان من أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) وأخذه عنه، وهم يعدونه حلقة هامة في سلسلة الصوفية والعرفان
]ومن هؤلاء الشيخ فريد الدين العطار النيسابوري(1) صاحب كتاب (تذكرة الأولياء) وتجدر الإشارة هنا إلى أن العرفان بمدلوله الحالي وبالمعنى الذي نعرفه عنه لم يكن له وجود في القرن الأول الهجري. فإن وجد آنذاك شيء من مبادئ هذا العلم، فإن مدلوله يختلف عما هو عليه اليوم
وليس ثمة ريب في أن التفكير العرفاني موجوداً لدى بعض علماء المسلمين، دون أن يشتهر به أحد منهم. ودون أن يعرف أي مكتب من مكاتب العرفان الموجودة في هذا العصر، ولم نر من القادة أو المفكرين من تزعم مجموعة من المريدين أو سمى نفسه قطباً أو غوثاً أو ما إلى ذلك. ثم إن العرفان في الإسلام كان ينبوعاً فياضاً في الباطن والقلب. ولم تكن بين العرفان والدراسات التقليدية علاقة. ولم يكن المريد أو القطب يدرس ويعلم المريدين العرفان، بل كان العرفان أسلوباً للحياة وطريقة للعمل الجاد في جو من الحب والعشق. وكان العارف يقول: أمح الأوراق إذا كنت تصحبنا في الدروس والرحيل، لأن حديث الغرام والعشق غير موجود في الدفاتر(2)[ومنذ القرن الثاني للهجرة بدأ العرفاء والزهاد يتوزعون حول الأقطاب والمرشدين، فأبدعوا وأسسوا مكاتب عرفانية
ويقول صاحب (تذكرة الأنبياء) وهو من الكتب المشهورة في أحوال العرفاء والصوفية وقد جمع فيه مؤلفه الروايات الموثوق بها والضعيفة يقول إن بايزيد البسطامي العارف الشهير كان من تلامذة جعفر الصادق (عليه السلام). أخذ عنه العرفان. وساق الحديث عنه على النحو التالي: إن بايزيد البسطامي، بعدما تعلم العلوم المتداولة، اتجه إلى العرفان، وطاف حول العالم بحثاً عن العرفاء العظام، وتحمل المشاق والحرمان ثلاثين سنة، وحضر مجلس مائة وثلاثة عشر عارفاً كان آخرهم الإمام الصادق (عليه السلام). وكان يحضر درسه كل يوم معداً نفسه للاغتراف من منهله ما أمكن، فسأله الصادق يوماً: ناولني الكتاب الذي في الرف فوق رأسك.
فسأل بايزيد: وأي رف هذا؟
فقال له الصادق: تسألني عن الرف وأنت تحضر كل يوم هنا من زمن بعيد؟
فقال بايزيد: إنني لم أشاهد غيرك هنا، لأنني أتيت للقائك والاستماع إلى حديثك.
فقال له الصادق: يا بايزيد، أنت كملت الدرس والرحلة، فعد إلى بلادك وعلم الناس ما تعلمت. فقام وعاد إلى بسطام في يومه.
ولعل صاحب (تذكرة الأنبياء) كان يعتقد بصحة هذا الحديث. ولكنه لم يراع التسلسل الزمني وتتابع الحوادث، ولولا ذلك لقلنا اختلق هذه الرواية أو أن غيره اختلقها ونقلها هو عنه، لأن الإمام الصادق (عليه السلام) كان مشتغلاً بالتعليم والتدريس في المدينة في النصف الأول من القرن الثاني، وتوفي سنة 148 هجرية، في حين أن بايزيد البسطامي كان يعيش في القرن الثالث وتوفي سنة 261 هجرية.
إن مبادئ العرفان ومكاتبه في القرن الثامن الهجري لم تكن تزيد على سلوك العارف وقوة تخيله وتأمله، ومن هنا يمكن القول بأن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان له خيال وتفكير عرفاني عميق، وإذا كان من آثار العرفان على العارف تغيير أسلوب حياته والتأثير في خلقه وسلوكه وأدبه، فلسنا نشك في أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان بهذا رائداً وإماماً للغير، ولكن لا علاقة لهذا السلوك المعنوي بالعلوم التجريبية في الإسلام، وهو أول عالم جمع بين النظرية العلمية والتجربة العملية، ولم يكن يقبل أو يؤيد نظرية في الفيزياء أو الكيمياء إلا بعد التحقق منها بنفسه في التجربة العملية والاختبار، وعالم كهذا، لا يهتم بعلوم نظرية بحتة اهتمامه بالعلوم التجريبية.
وفي التاريخ الإسلامي أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان أول عالم تحدث عن الفيزياء والكيمياء، وهو في نفس الوقت يعد في طليعة العرفاء والزهاد. حتى أن الإمام الزمخشري(3) بعدما أثنى عليه في كتابه (ربيع الأبرار) ثناء كريماً، عده من طلائع العرفاء وزعمائهم.
وكان العطار النيسابوري صاحب (تذكرة الأولياء) يرى بدوره أن الصادق (عليه السلام) رائد للعرفاء، ولكن شتان بين ما سجله الزمخشري وهو عالم مدقق، وبين ما أورده العطار، وهو صوفي جماعة، يجمع بدافع من المحبة كل ما سمع وقرأ، ومؤلفه يثبت أنه كان مغرماً ومتيماً بحب العرفاء والصوفية العظام، فهو يكتب عنهم بعين الرضا والقبول، وبالمغالاة أحياناً، ولولا حبه هنا لما وقع في هفوات.
ويمكن القول إن القلم في يد الزمخشري يتحكم فيه العقل والدقة، أما القلم في يد العطار فيتحكم فيه الحب والعشق، وأياً كان الأمر، فالصادق (عليه السلام) يعد في تاريخ العلوم الإسلامية من مؤسسي علم العرفان.
ولا شك في أن دروسه في العرفان كان يحضرها عدد من غير المسلمين، فقد قيل إن نفراً من الصابئة(4) قرؤوا عليه، والصابئة بآرائهم الدينية هم وسط بين المسيحية واليهود، وكانوا يعدون من الموحدين في الإسلام، وكان بعضهم يتظاهر بالإسلام دفاعاً عن النفس أو حرصاً على المال، وكان مركزهم (حران) غرب بلاد ما بين النهرين (العراق)، وكان هذا المركز يسمى قديماً عند الأوربيين ب (كارة)، ومن عادات الصابئة تعميد الطفل بعد ولادته وتسميته. جاء في دائرة المعارف الإسلامية(5) إن كلمة صابئي مأخوذة من صب الماء وغسله، لأن الصابئة تغسل الطفل بعد الولادة بتعميده في الماء، وكانت الصابئة تقول بنبوة يحيى المعمدان (يوحنا) بن زكريا.
ويقول العطار النيسابوري إن أناساً من جميع القرى كانت تحضر درس الإمام الصادق (عليه السلام) وتنهل من معينه، ويقول الشيخ أبو الحسن الخرقاني(6) إن المسلم والكافر استفاد كلاهما من فضل الصادق (عليه السلام) وعلمه.
ولا ندري هل كان تسامح الصادق (عليه السلام) مع غير المسلم راجعاً إلى عرفانه وزهده، أو أنه كان ينظر إلى الأمور بمنظار شامل، وكان يريد الخير والعلم للجميع ولهذا فهو يسمح لمن حضر درسه بأن يستمع إليه ولو كان غير مسلم، وفي دائرة المعارف الإسلامية أن هناك من يقول أن جابراً بن حيان ـ وهو من أشهر أصحاب الصادق (عليه السلام) ـ كان من الصابئة أيضاً.
وكان الصابئة في درس الإمام مولعين بتحصيل العلم، وكانوا يبذلون قصارى جهدهم لاستيعاب الدروس وفهمها، وبهذا استطاعوا وضع أسس علمية ثقافية للصابئة، وبمقارنة ثقافة الصابئة قبل عهد الصادق (عليه السلام) وبعده نرى فرقاً شاسعاً كالفرق بين النور والظلمة.
وكان الصابئة قبل الصادق (عليه السلام) فئة منطوية على نفسها، لا يعرف عناه شيء كثير كما أنهم هم أنفسهم لم يكونوا يعرفون الكثير ولم يكن علمهم يتجاوز علم البدوي من العرب، ولكن اشتهر بعد الصادق (عليه السلام) كثير منهم في ميادين الكيمياء والطب والنجوم، وأصبحوا أمة ذات ثقافة وشهرة. ويقع الباحث في دوريات المعارف والمعاجم على أسماء كثير منهم.
وإلى الصادق (عليه السلام) يعزى الفضل في أن الصابئة الغارقة في الجهل والحرمان قد أصبحت طائفة متقدمة متمدنة اشتهر كثير من أبنائها في ميادين العلوم المتباينة، كما انتفع العالم بثقافتهم وعلمهم، وبفضل إشعاع مدرسة الصادق (عليه السلام) بقيت لهؤلاء القوم شخصيتهم الخاصة وكيانهم المستقل واشتهر بعضهم وذاع صيته، وما زال البعض منهم يعيش في المنطقة نفسها (حران)، وإن كان عددهم قد تواضع عما كان عليه قبلاً.
وكما أسلفنا بيانه، هناك إجماع بين الشيخ أبي الحسن الخرقاني والزمخشري والعطار النيسابوري على أن جعفراً الصادق (عليه السلام) هو قدوة العرفاء في التاريخ الإسلامي، ولا غرو أن يذكروه بعظيم الإجلال والاحترام والود.
والخرقاني عالم معدود مشهور من علماء التصوف والعرفان، وقد تناول في مباحثه أصول العرفان في الهند والشرق قبل الإسلام، ولكن غابت عنه معالم التصوف والعرفان في فارس قبل الإسلام إما لعدم إلمامه بمبادئ الزردشتية، أو لعدم توافر المراجع والمؤلفات الزردشتية لديه.
وفي هذه الفترة، أي في النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الهجريين، كانت اللغة البهلوية شائعة، في كل مكان، وكان الخرقاني مطلعاً على مبادئ اليهودية والمسيحية.
وبفضل البحوث التي أجرتها نخبة من المستشرقين الفرنسيين من القرن السابع عشر الميلادي وإلى يومنا هذا، وبفضل النصوص الهندية القديمة التي ترجمت إلى اللغات الحية، وأهمها كتاب (فيداس) المقدس، هان علينا أن نعرف عمق الصلة بين ثقافة الهند القديمة وثقافة فارس القديمة، كما عرفنا أن هذين البلدين كانا ينهلان من معين مشترك وأن التفكير الزردشتي قد تأثر بالفكر الهندي، ولا ريب في أن الزردشتيين قد استفادوا في آرائهم العرفانية والصوفية من عرفان الهنود وتصوفهم وتأثروا بهما أكثر مما تأثروا أو استفادوا من أي مصدر آخر.
إن مذهب زردشت القائل بمبدأين(7) هما مبدأ الخير ومبدأ الشر، يختلف اختلافاً جذرياً عن الهندوكية القائلة بالتثليث، فإن مذهب زردشت قد بنى تعاليمه على الثنائية، وكان يدين بأن العالم مبني على الأضداد وأن لكل شيء قطبين هما القطب المثبت والقطب المنفي.
ولو أن الشيخ الخرقاني حالفه النجاح في التفرقة بين العرفان والتصوف في فارس والعرفان في مدرسة الإسكندرية، لأدرك أن العرفان عند زردشت نابع من ثنائية التفكير، في حين أن العرفان الذي أرسى الصادق (عليه السلام) معالمه وأوضح سبله في مدرسته هو عرفان توحيدي لا أثر للثنائية ولا للتثليث فيه، فعرفان الصادق (عليه السلام) هو أسمى ما وصل إليه الفكر البشري لبلوغ الصفاء والتكامل النفسي والروحي. وكان مذهبه من السمو والرفعة بحيث تقاصر عن فهمه وتحليله وتبنيه كثير من الناس سواء في عصره أو في العصور التي تلته عندما تشعب العرفان وأصبحت له مكاتب وفرق متعددة.
تميز عرفان الصادق (عليه السلام) عند ظهوره بالتوحيد، وسيظل هذا ديدنه نابذاً الثنائية والتثليث، تاركاً العلو والسرف في تعريف صفات الخالق أو المخلوق كما حدث للعرفان الإسلامي أحياناً في أدوار متأخرة.
وسنرى فيما بعد أن الغلو قد دفع ببعض المشايخ والعرفاء إلى الانحراف، ففاه بعضهم بعبارات وأقوال انبعثت منها الشرك والكفر، حتى انفض عنهم كثير من أنصارهم وأتباعهم، أو هم قد وقعوا في شطحات وطامات كبرى( انتهت ببعضهم إلى القول: (سبحاني سبحاني ما أعظم شأني، ليس في جبتي سوى الله)(9)، ولهذا رأينا أن العلامة الزمخشري ينفر منهم وينتقدهم ـ أي الطبقة المغاليةـ ولكن عرفان الصادق (عليه السلام) كان بعيداً عن المبالغات والترهات، وكان مبنياً على أساس توحيدي في تنزيه الخالق عن صفات المخلوق، والمخلوق عن الخالق، ولهذا تبعته الشيعة بأسرها وكثير من أهل السنة أيضاً.
يرتكز العرفان عند الصادق (عليه السلام) على التوكل على الله تعالى وتنفيذ أحكامه وأوامره، والامتثال لنواهيه دون إهمال شؤون الدنيا أو تركها لئلا تضطرب الحياة اليومية وتفقد صفاءها وسعادتها، فهو لا يوصي بترك الدنيا للوصول إلى السعادة بل يرى أن السعادة هي في التوكل على الله والتقوى، وتقبل حظوظ الدنيا المشروعة(10).
وليس في عرفان الصادق (عليه السلام) كلام عن وصول المعارف إلى الله وهو التفكير الأساسي الذي دان به كثير من الصوفية والعرفاء في القرون التي تعاقبت بعد عصر الصادق (عليه السلام) فالوصول إلى الله عند الصادق (عليه السلام) يطابق تماماً ما صوره القرآن الكريم أي أن الإنسان هو صنيع الله ومخلوقه وهو منه وإليه يرجع. وليس معنى هذا أن الإنسان يلتحق بالذات الإلهية ويصبح جزءاً منها، ولكن معناه أن الإنسان مخلوق ومصنوع ويظل هذا وضعه دائماً ويستحيل عليه أن يكون خالقاً، ومتى مات رجع إلى الله وبرجوعه إليه تعالى يكون شديد القرب من الخالق.
على أن التفكير العرفاني انجرف عن هذا الاتجاه بعد الصادق (عليه السلام)، وفسر العرفاء الآية القرآنية (إنا لله وإنا إليه راجعون) بمعنى أن الإنسان سيلحق بربه بعد موته، وقالوا لا يلحق الإنسان به سبحانه وتعالى في حياته؟ وانطلقوا من هذه العقيدة يقولون أن الإنسان في مذهبهم يلتحق بعد موته بالقدرة الأزلية الأبدية، فيبقى حياً، ويشاهد الأمور الجارية في الدنيا، ويرى أهله وأصحابه، وتكون له قدرة على مساعدتهم في حل مشكلاتهم(11).
ولا يقتصر الاعتقاد بحياة الإنسان بعد الموت على المسلمين وحدهم، وإنما ذهبت إلى هذا الاعتقاد الأديان السابقة على الإسلام. وإذا استثنينا المانوية والباطنية، لم نجد في الأديان القديمة كلها ما يقول بعدم وجود حياة بعد الموت، فحتى الأديان الهندية والبوذية التي تحرق جسد الميت، تؤمن بأن هناك عالماً آخر بعد الموت سيبقى فيه الإنسان حياً. أما المانوية والباطنية فلا تؤمنان بيوم المعاد على هذه الصورة، وإن كان دعاة الباطنية تبينوا بعد وفاة حسن الصباح أن الإيمان بالمعاد وفكرة العقاب يلعبان دوراً كبيراً في نهي الإنسان عن ارتكاب المعصية وإتيان السيئ من الأعمال، وعلى هذا شرعوا ينادون بصورة ما من صور يوم المعاد.
وفي بعض الأديان الأخرى كالأديان التي كانت سائدة في مصر القديمة، ارتبطت فكرة الثواب والعقاب بحياة الإنسان في هذا العالم، أي أن الإنسان بمجرد موته يكون قد نال ثوابه أو عقابه.
ولكن من عقائد بعض الأديان الأخرى أن الثواب والعقاب يجيئان بعد الموت بفترة، فيجوز إذن القول بأن فكرة المعاد واردة على نحو أو آخر في معظم الأديان باعتبارها عنصراً أساسياً فعالاً في نهي الإنسان عن الخطأ أو اقتراف المعاصي وفي القيام بدور الوازع الداخلي الأمين الذي يكبح جماع الإنسان.
وللدكتور (لاي وينك أستون)، الذي كان أول من اكتشف منابع النيل في أفريقيا السوداء في القرن التاسع عشر، مذكرات نفسية عن رحلاته في أواسط أفريقيا، وقد أهداها إلى الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، وقد ذكر أستون في هذه المذكرات أنه لاحظ طوال مدة إقامته بين مختلف القبائل الإفريقية أن هذه القبائل تؤمن بحياة أجدادها، وفي رأي بعضها أن الآباء المتوفين يتمتعون بمقدرة خاصة في التأثير في حياة الأحياء من الأبناء وسواهم، كما لاحظ أن السحرة في أفريقيا كانوا يصورون لأهل الميت صورة واضحة لتفكيره وإرادته.
وذهب البعض إلى القول بأن عقيدة المعاد أو الحياة بعد الموت هي من العقائد الفطرية لدى البشر، وأنها وجدت مع الإنسان من أقدم العصور وفي جميع الأديان السماوية. صحيح أن هذه العقيدة ليست من أصول البيولوجيا أو وظائف الأعضاء كالجوع أو العطش، فيحس بها الإنسان بحكم طبيعته المادية، ولكنها قد لازمت المجتمع الإنساني عامة في أدواره المختلفة حتى ليمكن القول بأن الفكرة لم تنفصل عن الإنسان الاجتماعي، فإن فقدها إنسان كان كمن فقد الحياة في المجتمع البشري بغض النظر عن مستواه.
وتستند فكرة المعاد عند جميع المذاهب إلى الاعتقاد بأن هناك حياة ثانية بعد الموت، وقد لعبت هذه العقيدة الفطرية دوراً هاماً في نفس الإنسان فكانت وازعاً داخلياً أو شرطياً سرياً ينهاه عن اقتراف السيئات.
كان السارق في مصر القديمة يعاقب حسب القوانين السارية، أما في العالم الغربي(12)، أي العالم الثاني، فكان يبقى في الظلام دون أن يستضئ بنور الشمس أو بالمصابيح.
وعند زردشت أن الإنسان في عالم الآخرة يمر على جسر (جنوند) (Chanvand)، فإن كان مرتكباً للمعاصي في هذه الدنيا، تعذر عليه اجتياز الجسر وسقط(13).
ثم إن المكاتب العرفانية في المشرق استفادت من عقيدة المعاد عند المسلمين فأوجدت هذه العقيدة أرضية صالحة للتربية النفسية عند العرفاء، لأن الحياة الأفضل بعد الموت تتوقف على سيرة الإنسان في هذه الدنيا(14). بل إن العرفاء من نهاية القرن الثاني الهجري تجاوزوا هذا الحد، وذهبوا إلى القول بأن في وسع الإنسان بسلوكه وعرفانه أن يصل إلى أعلى المراتب والدرجات في هذه الدنيا، وكانت الفكرة قائمة على فكرة المعاد، إذ أن من رأيهم أن الموت هو مجرد تغيير للمجلس، وأن الحياة مستمرة بعد الموت، فإذا كانت الحياة مستمرة، فلم لا يرتقي الإنسان إلى أعلى مراتب الكمال والوجود في هذه الدنيا، مترقباً بلوغ هذه المراتب بعد الموت؟ فأصبح الهدف الأساسي عند كثير من العرفاء هو الوصول إلى الملكوت الأعلى أو إلى المراتب الإلهية، أو إن شئت فقل المكانة الإلهية.
ولكن الصادق (عليه السلام) لم يقل أن الإنسان سيصل إلى مرتبة الإله في هذه الدنيا أو في غيرها، وكان في تفكيره هذا مستند إلى أصلين:
أولهما، الاعتقاد بحياة الإنسان بعد الموت.
ثانيهما، اشتراك الوجود لا وحدة الوجود.
ونظرية وحدة الوجود التي تعتبر أهم عنصر وأقوى أساس يستند إليه التفكير العرفاني والصوفي لها جذورها في الشرق، وتنبع من عرفان الهند وفارس، ومنهما انتقلت إلى أوربا بعدئذ، ولكن جعفراً الصادق (عليه السلام) لم يقل بوحدة الوجود أبداً، وكان يرى أن الإنسان المخلوق، هو شيء، والخالق (الله سبحانه) شيء آخر. أما القائلون بوحدة الوجود فلم يعينوا حداً فاصلاً بين وجود الإنسان وغيره من الموجودات وبين وجود الله، وفي زعمهم أن الوجود يشبه الشمس التي أطلقت ضوءها من خلال زجاج ملون فانعكس بألوان شتى، فلئن اختلفت ألوان ضوء الشمس، فكلها صادرة من منبع واحد، وفي زعمهم أيضاً أن الموت لا يعدو أن يكون رجعة إلى الأصل، كماء المطر أو قطر الندى إذ يلتحق بالبحر، وهو منه.
1 - فريد الدين محمد العطار النيسابوري الذي اشتهر بالشيخ فريد الدين ولد سنة 540 هجرية واستشهد في هجوم المغول على نيسابور سنة 618ه. وهو من أشهر شعراء الصوفية والعرفاء في تاريخ إيران. له من المؤلفات: منطق الطير، وإلهي نامه، وأسرار نامه وغيرها من الدواوين. وكتابه (تذكرة الأنبياء) ألفه في تاريخ العرفاء والصوفية العظام، وهو من أشهر الكتب وأقدمها في هذا الميدان. (المترجم).
2 - أصل الحديث بيت شعر بالفارسية هو: بشوي أوراق أكر همدرس مائي.. كه درس عشق در دفتر نباشد.
3 - هو الإمام جار الله محمود بن عمر أبو القاسم الزمخشري، ولد في زمخشر عام 467 وتوفي 538 هـ (1144 م)، وهو إمام عصره في اللغة والنحو والبيان والتفسير، سموه جار الله لأنه جاوره بمكة. كان معتزلي الاعتقاد، ومن مؤلفاته: المفصل في النحو، والكشاف عن حقائق التنزيل في التفسير وقد عرف به فهو صاحب الكشاف وكفى، والفائق في غريب الحديث، وأساس البلاغة في اللغة، وأطواق الذهب، ونوابغ الكلم، وربيع الأبرار في التراجم.
4 - الصابئة ملة تؤله الكواكب، ومنهم من يرى نفسه موصوفاً في القرآن بالصابئة.
5 - الأصل الفرنسي Encyclopaedia Islamica.
6 - الشيخ أبو الحسن الخرقاني من أئمة العرفاء والصوفية، ولد سنة 352 للهجرية في قرية خرقان من توابع بسطام، وأخذ العلم والتصوف والسلسلة من الشيخ ابن العباس أحمد بن محمد القصاب الأملي. توفي بخرقان ودفن بها سنة 425 للهجرة.
7 - في رأي البعض أن الزردشتية وثنيون لقولهم بمبدأ الخير والشر. والشيطان في عرفهم (واسمه أهريمن) يمثل مبدأ الشر، وينبغي على الناس اجتناب وساوسه واندفاعاته، فالخوف من الشيطان (أهريمن) أو اتقاء شره ليس دليلاً على أن الزردشت جعلوا منه إلهاً ثانياً أو نسبوا إليه القدرة في التصرف في هذا الكون وفي تاريخ الفتوحات الإسلامية أن المسلمين عدوا الزردشتية من أهل الكتاب وفرضوا عليهم الجزية وتركوهم على حريتهم الدينية.
8 - جمعت هذه الكلمات والمصطلحات في كتاب ب (شطحات الصوفية).
9 - ينسب هذا الكلام وغيره من هذا القبيل إلى بايزيد البسطامي.
10 - وكان هذا منهج الأئمة قبله، فقد ذكر الإمام محمد عبده في شرحه على نهج البلاغة: إن علاء بن زياد الحارثي ـ وهو من أغنياء البصرة ـ جاء إلى علي بن أبي طالب عليه السلام يشكو أخاه عاصماً ابن زياد:
فقال علي (عليه السلام): وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال علي (عليه السلام): علي به، علي به، فلما جاء به قال له: يا عدي نفسه. (عدي تصغير عدو) لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟ قال: ويحك إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقيره (يقدروا: أي يقيسوا ولا يتبيغ أي لا يهيج). راجع (نهج البلاغة) شرح الإمام محمد عبده، ج3 ص400ـ 401، طبع دار الأندلس بيروت لبنان.
11 - كان من المفروض أن يورد مصدر هذا الكلام، فهو ليس عقيدة لكل صوفي أو عارف.
12 - في مصر القديمة، كانت المدن مبنية على ضفاف النيل، والمقابر في الضفة الغربية من النيل، فإن أرادوا الحديث عن الآخرة، أشاروا إلى الجانب الغربي للنيل.
13 - عند المسلمين الصراط الممدود بين الجنة وبين النار.
14 ـ باعتبار أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراَ يره).