الوثيقة السياسية الجديدة لـ"حزب الله"
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
قال الله تعالى في كتابه المجيد:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (العنكبوت: 69)
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. (المائدة: 35)
تهدف هذه الوثيقة إلى تظهير الرؤية السياسية لحزب الله، حيث تنطوي على ما نراه من تصورات ومواقف وما نختزنه من آمال وطموحات وهواجس، وهي تأتي - قبل أي شيء آخر - نتاجاً لما خبرناه جيداً من أولوية الفعل وأسبقية التضحية.
ففي مرحلة سياسية إستثنائية وحافلة بالتحولات لم يعد ممكناً مقاربة تلك التحولات من دون ملاحظة المكانة الخاصة التي باتت تشغلها مقاومتنا، أو تلك الرزمة من الإنجازات التي حققتها مسيرتنا.
وسيكون ضرورياً إدراج تلك التحولات في سياق المقارنة بين مسارين متناقضين وما بينهما من تناسب عكسي متنامٍ:
1- مسار المقاومة والممانعة في طوره التصاعدي الذي يستند إلى انتصارات عسكرية ونجاحات سياسية وترسُّخ أنموذج المقاومة شعبياً وسياسياً والثبات في المواقع والمواقف السياسية رغم ضخامة الإستهداف وجسامة التحديات.. وصولاً إلى إمالة موازين القوى في المعادلة الإقليمية لصالح المقاومة وداعميها.
2- مسار التسلط والإستكبار الأميركي - الإسرائيلي بأبعاده المختلفة وتحالفاته وامتداداته المباشرة وغير المباشرة والذي يشهد انكسارات أو انهزامات عسكرية وإخفاقات سياسية أظهرت فشلاً متلاحقاً للإستراتيجيات الأميركية ومشاريعها واحداً تلو الآخر، كل ذلك أفضى إلى حالة من التخبط والتراجع والعجز في القدرة على التحكم في مسار التطورات والأحداث في عالمنا العربي والإسلامي.
تتكامل هذه المعطيات في إطار مشهد دُوليّ أوسع، يُسهم بدوره في كشف المأزق الأميركي وتراجع هيمنة القطب الواحد لصالح تعددية لم تستقر ملامحها بعد.
وما يعمّق أزمة النظام الإستكباري العالمي الإنهيارات في الأسواق المالية الأميركية والعالمية ودخول الإقتصاد الأميركي في حالة تخبّط وعجز، والتي تعبِّر عن ذروة تفاقم المأزق البنيوي في الأنموذج الرأسمالي المتغطرس.
لذا يمكن القول: إننا في سياق تحولات تاريخية تُنذر بتراجع الولايات المتحدة الأميركية كقوة مهيمنة، وتحلُّل نظام القطب الواحد المهيمن، وبداية تشكّل مسار الأفول التاريخي المتسارع للكيان الصهيوني.
تقف حركات المقاومة في صُلب هذه التحولات، وتَبرز كمعطى إستراتيجي أساسي في هذا المشهد الدُّولي بعد أن أدت دوراً مركزياً في إنتاج أو تحفيز ما يتصل من تلك التحولات بمنطقتنا.
لقد كانت المقاومة في لبنان ومن ضمنها مقاومتنا الإسلامية سبّاقةً إلى مواجهة الهيمنة والإحتلال قبل ما يزيد على عقدين ونصف من الزمن، وهي تمسكت بهذا الخيار في وقت بدا وكأنه تدشينٌ للعصر الأميركي الذي جرت محاولات تصويره وكأنه نهاية للتاريخ. وفي ظل موازين القوى والظروف السائدة آنذاك إعتبر البعض خيار المقاومة وكأنه ضربُ وهمٍ، أو تهورٌ سياسي أو جنوح مناقض لموجبات العقلانية والواقعية.
رغم ذلك مضت المقاومة في مسيرتها الجهادية وهي على يقين من أحقية قضيتها وقدرتها على صنع الإنتصار، من خلال الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه والإنتماء للأمة جمعاء والإلتزام بالمصالح الوطنية اللبنانية والثقة بشعبها وإعلائها القيم الإنسانية في الحق والعدالة والحرية.
فعلى مدى مسارها الجهادي الطويل وعبر انتصاراتها الموصوفة، بدءاً من دحر الإحتلال الإسرائيلي في بيروت والجبل إلى هروبه من صيدا وصور والنبطية وعدوان تموز 1993 وعدوان نيسان 1996 والتحرير في أيار 2000، فحرب تموز 2006، أرست هذه المقاومة صدقيتها وأنموذجها قبل أن تصنع انتصاراتها، فراكمت حقبات تطوُّر مشروعِها من قوة تحرير إلى قوة توازن ومواجهة ومن ثَمّ إلى قوة ردعٍ ودفاع، مضافاً إلى دورها السياسي الداخلي كركن مؤثّر في بناء الدولة القادرة والعادلة.
بالتزامن مع ذلك، قُدِّر للمقاومة أن تطور مكانتها السياسية والإنسانية، فارتقت من كونها قيمةً وطنيةً لبنانيةً إلى كونها - أيضاً - قيمةً عربيةً وإسلاميةً متألقةً، وقد أصبحت اليوم قيمةً عالميةً وإنسانيةً يجري استلهام أنموذجها والبناء على إنجازاتها في تجارب وأدبيات كل الساعين إلى من أجل الحرية والإستقلال في شتى أنحاء المعمورة.
إنّ حزب الله رغم إدراكه لتلك التحولات الواعدة وما يراه من مراوحة العدو بين عجز استراتيجية الحرب لديه والعجز عن فرض التسويات بشروطه، فإنه لا يستهين بحجم التحديات والمخاطر التي لا تزال ماثلةً، ولا يُقَلِّل من وعورة مسار المواجهة وحجم التضحيات التي تستوجبها مسيرة المقاومة واسترداد الحقوق والمساهمة في استنهاض الأمة، إلاّ أنه - في قبال ذلك - قد بات أشد وضوحاً في خياراته وأمضى عزيمةً في إرادته وأكثر ثقةً بربّه ونفسه وشعبه.
في هذا السياق، يحدِّد حزب الله الخطوط الأساسية التي تشكّل إطاراً فكرياً – سياسياً لرؤيته ومواقفه تجاه التحديات المطروحة.
(الفصل الأول)
الهيمنـة والإستنهـاض
أولاً : العالم والهيمنة الغربية والأميركية
بعد الحرب العالمية الثانية باتت الولايات المتحدة صاحبة مشروع الهيمنة المركزي والأول، وعلى يديها شهد هذا المشروع تطوراً هائلاً في آليات التسلط والإخضاع غير المسبوقة تاريخياً، مستفيدةً في ذلك من حصيلة مركّبة من الإنجازات المتعددة الأوجه والمستويات العلمية والثقافية والمعرفية والتكنولوجية والإقتصادية والعسكرية، والمدعومة بمشروع سياسي إقتصادي لا ينظر إلى العالم إلاّ بوصفه أسواقاً مفتوحةً ومحكومةً لقوانينها الخاصة.
إنّ أخطر ما في منطق الهيمنة الغربي عموماً، والأميركي تحديداً، هو اعتباره منذ الأساس أنه يمتلك العالم وأنّ له حق الهيمنة من منطلق التفوق في أكثر من مجال، ولذا باتت الإستراتيجية التوسعية الغربية - وبخاصة الأميركية - ومع اقترانها بالمشروع الإقتصادي الرأسمالي إستراتيجيةً عالميةَ الطابع، لا حدود لأطماعها وجشعها.
إنّ تحكّم قوى الرأسمالية المتوحشة، المتمثلة على نحوٍ رئيسٍ بشبكات الإحتكارات الدُّولية من شركات عابرة للقوميات بل وللقارات، والمؤسسات الدُّولية المتنوعة، وخصوصاً المالية منها والمدعومة بقوة فائقة عسكرياً، أدى الى المزيد من التناقضات والصراعات الجذرية، ليس أقلها اليوم: صراعات الهويات والثقافات وأنماط الحضارات، إلى جانب صراعات الغنى والفقر.
لقد حولت الرأسمالية المتوحشة العولمة إلى آلية لبث التفرقة وزرع الشقاق وتدمير الهويات وفرض أخطر أنواع الإستلاب الثقافي والحضاري والإقتصادي والإجتماعي.
وقد بلغت العولمة حدَّها الأخطر مع تحولها إلى عولمة عسكرية على أيدي حاملي مشروع الهيمنة الغربي، والتي شهدنا أكثر تعبيراتها في منطقة الشرق الأوسط بدءاً من أفغانستان إلى العراق وفلسطين فلبنان، الذي كان نصيبه منها عدواناً شاملاً في تموز العام 2006 وذلك باليد الإسرائيلية.
لم يبلغ مشروع الهيمنة والتسلط الأميركي مستويات خطرةً كما بلغها مؤخراً، لا سيما منذ العقد الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم، وذلك في مسار تصاعدي إتخذ من سقوط الإتحاد السوفياتي وتفككه نقطة انطلاق، لما شكّله من فرصة تاريخية في الحسابات الأميركية للإستفراد بقيادة مشروع الهيمنة عالمياً، وذلك باسم المسؤولية التاريخية وبأنّ لا تمييز بين مصلحة العالم والمصلحة الأميركية، ما يعني تسويق الهيمنة كمصلحة لباقي الدول والشعوب لا بوصفها مصلحةً أميركيةً بحتةً.
لقد بلغ هذا المسار ذروته مع إمساك تيار المحافظين الجدد بمفاصل إدارة "بوش" الابن، هذا التيار الذي عبّر عن رؤاه الخاصة من خلال وثيقة "مشروع القرن الأميركي الجديد" التي كُتبت ما قبل إجراء الإنتخابات الأميركية عام 2000، ليجد المشروع طريقه إلى التنفيذ بُعيد استلام إدارة "بوش" الابن السلطة في الولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن غريباً ولا مفاجئاً أن يكون أكثر ما أكدت عليه هذه الوثيقة - التي سرعان ما باتت دليل العمل لإدارة "بوش" - مسألة إعادة بناء القدرات الأميركية، والتي عكست رؤيةً استراتيجيةً جديدةً للأمن القومي الأميركي، بدا واضحاً تماماً أنها ترتكز على بناء قدرات عسكرية ليس باعتبارها قوة ردع فقط وإنما أيضاً باعتبارها قوة فعل وتدخّل، سواء للقيام بعمليات "وقائية" عن طريق توجيه ضربات إستباقية أم لأغراض علاجية من خلال التعامل مع الأزمات بعد وقوعها.
وجدت إدارة "بوش" بُعيد أحداث 11 أيلول 2001، أنها أمام فرصة سانحة لممارسة أكبر قَدْر من النفوذ والتأثير، من خلال وضع رؤيتها الإستراتيجية للهيمنة المنفردة على العالم موضع التطبيق تحت شعار "الحرب الكونية على الإرهاب" وهكذا قامت هذه الإدارة بمحاولات إعتُبرت ناجحةً في بدايتها وفق التالي:
1- عسكرة علاقاتها وسياساتها الخارجية إلى الحد الأقصى.
2- تجنّب الإعتماد على الأطر المتعددة الأطراف، والإنفراد باتخاذ القرارات الإستراتيجية، والتنسيق حيث هناك ضرورة، ومع حلفاء يمكن الركون إليهم.
3- حسم الحرب في أفغانستان بسرعة للتفرغ بعد ذلك للخطوة التالية والأهم في مشروع الهيمنة ألا وهي: السيطرة على العراق، الذي اعتُبر نقطة الإرتكاز الرئيسة لإقامة شرق أوسط جديد يتناسب مع متطلبات عالم ما بعد 11 أيلول. ولم تتورع هذه الإدارة عن اللجوء إلى كل أساليب التمويه والخداع والكذب الصريح لتبرير حروبها، لا سيما الحرب على العراق، وضد كل مَن يقاوم مشروعَها الإستعماري الجديد من دول وحركات وقوى وشخصيات. وفي هذا الإطار عمدت هذه الإدارة إلى إقامة تطابق بين "مقولة الإرهاب" و"مقولة المقاومة" لتنزع عن المقاومة شرعيتها الإنسانية والحقوقية، وتبرّر بالتالي خوض الحروب على أنواعها ضدها، في سياق إزالة آخر حصون دفاع الشعوب والدول عن حقها بالعيش بحرية وكرامة وعزة، وعن حقها بسيادة غير منقوصة وببناء تجاربها الخاصة وأخذ مواقعها وأدوارها في حركة التاريخ الإنساني حضارياً وثقافياً.
لقد تحوّل عنوان "الإرهاب" إلى ذريعة أميركية للهيمنة من خلال أدوات: الملاحقة/ الضبط والإعتقال التعسفي/ إفتقاد أبسط مقومات المحاكمات العادلة، كما نجدها في معتقلات "غوانتنامو"، ومن خلال التدخل المباشر في سيادة الدول وتحويلها إلى ماركة مسجلة للتجريم التعسفي واتخاذ إجراءات معاقَبة تطال شعوباً بأسرها، وصولاً إلى منح نفسها حقاً مطلقاً بشن حروب تدميرية وماحقة لا تميز بين البريء والمجرم، ولا بين الطفل والشيخ والمرأة والشاب.
لقد بلغت كلفة حروب الإرهاب الأميركية حتى الآن الملايين من البشر فضلاً عن مظاهر الدمار الشاملة، التي لم تُصِب الحجر والبنى التحتية فحسب وإنما بنية ومكونات المجتمعات نفسها، حيث جرى تفكيكها، وعَكْس مسار تطورها التاريخي، في عملية ارتكاس أعادت إنتاج صراعات أهلية ذات أبعاد مذهبية وطائفية وعرقية لا تنتهي. هذا من غير أن ننسى استهداف المخزون الثقافي والحضاري لهذه الشعوب.
لا شك أنّ الإرهاب الأميركي هو أصل كل إرهاب في العالم، وقد حولت إدارة "بوش" الولايات المتحدة إلى خطر يتهدد العالم بأسره على كل الصعد والمستويات. ولو جرى اليوم استطلاع عالمي للرأي لظهرت الولايات المتحدة كأكثر دولة مكروهة في العالم.
إنّ الإخفاق الذي مُنيت به الحرب على العراق وتطور حالة المقاومة فيه والإمتعاض الإقليمي والدُّولي من نتائج هذه الحرب، وفشل ما يسمى "الحرب على الإرهاب" خصوصاً في أفغانستان إلى تسجيل عودة قوية لحركة طالبان واعتراف بدورها والسعي لعقد تسويات معها، وكذلك الفشل الذريع للحرب الأميركية على المقاومة في لبنان وفلسطين بأدوات إسرائيلية، أدت إلى تآكل الهيبة الأميركية دُوليّاً وإلى تراجع استراتيجي في قدرة الولايات المتحدة على الفعل أو خوض المغامرات الجديدة.
إلاّ أنّ ما تقدَّم لا يعني بأنّ الولايات المتحدة ستُخْلي الساحة بسهولة بل ستقوم بكل ما يلزم من أجل حماية ما تسمّيه "مصالحها الإستراتيجية"، ذلك لأنّ سياسات الهيمنة الأميركية تنهض على اعتبارات إيديولوجية ومشاريع فكرية تغذّيها اتجاهاتٌ متطرفةٌ متحالفةٌ مع مركّب صناعي – عسكري لا حدود لجشعه وأطماعه.
ثانياً : منطقتنا والمشروع الأميركي
إذا كان العالم المستضعَف بأسره يرزح تحت نير هذه الهيمنة الإستكبارية، فإنّ عالمنا العربي والإسلامي يناله منها القسط الأوفر والأثقل، لدواعي تاريخه وحضارته وموارده وموقعه الجغرافي.
إنّ عالمنا العربي والإسلامي هو منذ قرون عرضةً لحروب إستعمارية وحشية لا تنتهي، إلاّ أنّ مراحلها الأكثر تقدماً بدأت مع زرع الكيان الصهيوني في المنطقة، ومن ضمن مشروع تفتيتها إلى كيانات متصارعة ومتنابذة تحت عناوين شتى. ولقد بلغت ذروة هذه المرحلة الإستعمارية مع وراثة الولايات المتحدة للإستعمار القديم في المنطقة.
يتمثل الهدف المركزي الأبرز للإستكبار الأميركي بالسيطرة على الشعوب بكل أشكالها: السياسية والإقتصادية والثقافية ونهب ثرواتها ويأتي في الطليعة نهب الثروة النفطية بما هي أداة رئيسة للتحكم بروح الإقتصاد العالمي، وبكل الأساليب التي لا تلتزم أي ضوابط أو معايير أخلاقية أو إنسانية، بما فيها استخدام القوة العسكرية المفرِطة، مباشرة أو بالواسطة.
وقد اعتمدت أميركا لتحقيق هدفها سياسات عامةً واستراتيجيات عمل، أبرزها:
1- توفير كل سبل ضمان الإستقرار للكيان الصهيوني، بما هو قاعدة متقدمة ونقطة ارتكاز للمشروع الأميركي الإستعماري والتفتيتي للمنطقة، ودعم هذا الكيان بكل عوامل القوة والإستمرار، وتوفير شبكة أمان لوجوده، ما يؤهله للعب دور الغدة السرطانية التي تستنزف قدرات الأمة وطاقاتها وتبعثر إمكاناتها وتشتت آمالَها وتطلعاتها.
2- تقويض الإمكانات الروحية والحضارية والثقافية لشعوبنا والعمل على إضعاف روحها المعنوية عبر بث حروب إعلامية ونفسية تطال قيمها ورموز جهادها ومقاومتها.
3- دعم أنظمة التبعية والإستبداد في المنطقة.
4- الإمساك بالمواقع الجغرافية الإستراتيجية للمنطقة، لما تشكّله من عقدة وَصْلٍ وفصل، براً وبحراً وجواً، ونشر القواعد العسكرية في مفاصلها الحيوية خدمةً لحروبها ودعماً لأدواتها.
5- منع قيام أي نهضة في المنطقة تسمح بامتلاك أسباب القوة والتقدم أو تلعب دوراً تاريخياً على مستوى العالم.
6- زرع الفتن والإنقسامات على أنواعها، لا سيما الفتن المذهبية بين المسلمين، لإنتاج صراعات أهلية داخلية لا تنتهي.
من الواضح أنه لا مجال اليوم لقراءة أي صراع في أي منطقة من مناطق العالم إلاّ من منظار إستراتيجي عالمي، فالخطر الأميركي ليس خطراً محلياً أو مختصاً بمنطقة دون أخرى، وبالتالي فإنّ جبهة المواجهة لهذا الخطر الأميركي يجب أن تكون عالميةً أيضاً.
ولا شك بأنّ هذه المواجهة صعبةٌ ودقيقةٌ، وهي معركةٌ ذات مدًى تاريخي، وهي بالتالي معركة أجيال وتستلزم الإستفادة من كل قوة مفترَضة، ولقد علّمتنا تجربتنا في لبنان أنّ الصعوبة لا تعني الإستحالة بل بالعكس فإنّ شعوباً حيةً ومتفاعِلةً، وقيادةً حكيمةً وواعيةً ومستعدةً لكل الإحتمالات تراهن على تراكم الإنجازات، تصنع النصر تلو النصر. وبقدر ما يصح هذا الأمر عمودياً عبر التاريخ فهو يصـح أفقيـاً بالإمتـداد الجغـرافي والجيو-سياسي أيضاً.
لم يترك الإستكبار الأميركي لأمتنا وشعوبها من خيار إلاّ خيار المقاومة، من أجل حياة أفضل، ومن أجل مستقبل بشري وإنساني أفضل، مستقبل محكوم بعلاقات من الأخوّة والتنوع والتكافل في آن، ويسوده السلام والوئام، تماماً كما رَسَمَت معالِمَه حركةُ الأنبياء والمصلحين العظام عبر التاريخ، وكما هو في تطلعات وأشواق الروح الإنسانية الحقة والمتسامية.
(الفصل الثاني)
لبـــــــــنان
أولاً : الوطــن
إنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم.
ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو "الفدرلة" الصريحة أو المقنَّعة. ونريده سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ.
ومن أهم الشروط لقيام وطن من هذا النوع واستمراره أن تكون له دولةٌ عادلةٌ وقادرةٌ وقويةٌ، ونظامٌ سياسيٌ يمثّل بحق إرادة الشعب وتطلعاته الى العدالة والحرية والأمن والإستقرار والرفاه والكرامة، وهذا ما ينشده كل اللبنانيين ويعملون من أجل تحقيقه ونحن منهم.
ثانياً : المقـاومـة
تمثّل "إسرائيل" تهديداً دائماً للبنان - الدولة والكيان - وخطراً داهماً عليه لجهة أطماعها التاريخية في أرضه ومياهه، وبما هو أنموذج لتعايش أتباع الرسالات السماوية، في صيغة فريدة، ووطن نقيض لفكرة الدولة العنصرية التي تتمظهر في الكيان الصهيوني. فضلاً عن ذلك فإنّ وجود لبنان على حدود فلسطين المحتلة، وفي منطقة مضطربة جراء الصراع مع العدو الإسرائيلي، حتّم على هذا البلد تحمّل مسؤوليات وطنيةً وقوميةً.
بدأ التهديد الإسرائيلي لهذا الوطن منذ أن زُرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وهو كيانٌ لم يتوانَ عن الإفصاح عن أطماعه بأرض لبنان لضم أجزاء منه، والإستيلاء على خيراته وثرواته وفي مقدمتها مياهه، وحاول تحقيق هذه الأطماع تدريجياً.
باشر هذا الكيان عدوانه منذ العام 1948، من الحدود إلى عمق الوطن، من مجزرة حولا عام 1949 إلى العدوان على مطار بيروت الدُّولي عام 1968، وما بينهما سنوات طويلة من الإعتداءات على مناطق الحدود، بأرضها وسكانها وثرواتها، كمقدمة للإستيلاء المباشر على الأرض عن طريق الإجتياحات المتكررة، وصولاً إلى اجتياح آذار 1978 واحتلال منطقة الحدود وإخضاعها لسلطته الأمنية والسياسية والإقتصادية في إطار مشروع متكامل، تمهيداً لإخضاع الوطن كلّه في اجتياح العام 1982.
كل ذلك كان يجري بدعم كامل من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية، وتجاهل إلى حدّ التواطؤ من قِبَل ما يُعرف بـ"المجتمع الدُّولي" ومؤسساته الدُّولية، وفي ظل صمت رسمي عربي مريب, وغياب للسلطة اللبنانية التي تركت أرضَها وشعَبها نهباً للمجازر والإحتلال الإسرائيلي من دون أن تتحمل مسؤلياتها وواجباتها الوطنية.
في ظل هذه المأساة الوطنية الكبرى، ومعاناة الشعب وغياب دولته وتخلّي العالم عنه، لم يجد اللبنانيون المخلصون لوطنهم سوى استخدام حقهم، والإنطلاق من واجبهم الوطني والأخلاقي والديني في الدفاع عن أرضهم، فكان خيارهم: إطلاق مقاومة شعبية مسلّحة لمواجهة الخطر الصهيوني والعدوان الدائم على حياتهم وأرزاقهم ومستقبلهم.
في تلك الظروف الصعبة، حيث افتقد اللبنانيون الدولة بدأت مسيرة استعادة الوطن من خلال المقاومة المسلّحة، وذلك بتحرير الأرض والقرار السياسي من يد الإحتلال الإسرائيلي كمقدمة لاستعادة الدولة وبناء مؤسساتها الدستورية، والأهم من ذلك كلّه إعادة تأسيس القيم الوطنية التي يُبنى عليها الوطن وفي طليعتها: السيادة والكرامة الوطنيتان، ما أعطى لقيمة الحرية بُعدَها الحقيقي، فلم تبقَ مجرد شعار معلَّق بل كرّستها المقاومة بفعل تحرير الأرض والإنسان وتحولت هذه القيم الوطنية إلى مدماك أساس لبناء لبنان الحديث، فحجزت موقعه على خارطة العالم وأعادت الإعتبار إليه كبلد يَفرِِض احترامَه ويفتخر أبناؤه بالإنتماء إليه بما هو وطن للحرية والثقافة والعلم والتنوع كما هو وطن العنفوان والكرامة والتضحية والبطولة. إنّ هذه الأبعاد مجتمعةً توّجتها المقاومة من خلال ما أنجزته من تحرير في العام 2000 ومن انتصار تاريخي في حرب تموز عام 2006، والذي قدّمت فيهما تجربةً حيةً للدفاع عن الوطن، تجربةً تحوّلت إلى مدرسة تستفيد منها الشعوب والدول في الدفاع عن أرضها وحماية استقلالها وصون سيادتها.
تَحقَّقََ هذا الإنجاز الوطني للمقاومة بمؤازرة شعب وفيّ وجيش وطنيّ، وأَحبطَ أهدافَ العدو وأوقعَ به هزيمةً تاريخيةً، لِتَخْرج المقاومة بمجاهديها وشهدائها ومعها لبنان بشعبه وجيشه بانتصار عظيم أسّس لمرحلة جديدة في المنطقة عنوانها محورية المقاومة دوراً ووظيفةً في ردع العدو وتأمين الحماية لاستقلال الوطن وسيادته والدفاع عن شعبه واستكمال تحرير بقية الأرض المحتلة.
إنّ هذا الدور وهذه الوظيفة ضرورةٌ وطنيةٌ دائمةٌ دوام التهديد الإسرائيلي ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو - الخلل الذي يدفع عادةً الدول الضعيفة والشعوب المستهدفة من أطماع وتهديدات الدول المتسلطة والقـوية، إلـى البحث عن صيغ تستفيد من القدرات والإمكانات المتاحة - فإنّ التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومة شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيش وطني يحمي الوطن ويثبّت أمنه واستقراره، في عملية تكامل أثبتت المرحلة الماضية نجاحها في إدارة الصراع مع العدو وحققت انتصارات للبنان ووفرت سبل الحماية له.
هذه الصيغة، التي توضع من ضمن استراتيجية دفاعية، تشكّل مظلّة الحماية للبنان، بعد فشل الرهانات على المظلات الأخرى، سواء أكانت دُوليّة أم عربية أم تفاوضية مع العدو، فانتهاج خيار المقاومة حقّق للبنان تحريراً للأرض واستعادةً لمؤسسات الدولة وحمايةً للسيادة وإنجازاً للإستقلال الحقيقي. في هذا الإطار فإنّ اللبنانيين بقواهم السياسية وشرائحِهم الإجتماعية ونُخَبِهم الثقافية وهيئاتِهم الإقتصادية، معنيون بالحفاظ على هذه الصيغة والإنخراط فيها، لأنّ الخطر الإسرائيلي يتهدّد لبنان بكل مكوناته ومقوماته، وهذا ما يتطلّب أوسع مشاركة لبنانية في تحمّل مسؤوليات الدفاع عن الوطن وتوفير سبل الحماية له.
إنّ نجاح تجربة المقاومة في التصدي للعدو، وفشل كل المخططات والحروب للقضاء عليها أو محاصرة خيارها ونزع سلاحها من جهة، واستمرار الخطر الإسرائيلي على لبنان وعدم زوال التهديد عنه من جهةٍ أخرى يَفرض على المقاومة السعي الدؤوب لامتلاك أسباب القوة وتعزيز قدراتها وإمكاناتها بما يساعد على تأدية واجبها والقيام بمسؤولياتها الوطنية، للمساهمة في استكمال مهمة تحرير ما تبقّى من أرضنا تحت الإحتلال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر اللبنانية، واستنقاذ مَن بقي من أسرى ومفقودين وأجساد الشهداء، والمشاركة في وظيفة الدفاع والحماية للأرض والشعب.
ثالثاً : الدولة والنظام السياسي
إنّ المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني، والتي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه بشكل مستمر هي الطائفية السياسية. كما أنّ قيام النظام على أسس طائفية يشكّل عائقاً قوياً أمام تحقيق ديمقراطية صحيحة يمكن على ضوئها أن تحكم الأكثرية المنتخَبة وتعارض الأقلية المنتخَبة، ويُفتح فيها الباب لتداول سليم للسلطة بين الموالاة والمعارضة أو الإئتلافات السياسية المختلفة. ولذلك فإنّ الشرط الأساس لتطبيق ديمقراطية حقيقية من هذا النوع هو إلغاء الطائفية السياسية من النظام، وهو ما نص "اتفاق الطائف" على وجوب تشكيل هيئة وطنية عليا لإنجازه.
وإلى أن يتمكن اللبنانيون ومن خلال حوارهم الوطني من تحقيق هذا الإنجاز التاريخي والحساس - نعني إلغاء الطائفية السياسية - وطالما أنّ النظام السياسي يقوم على أسس طائفية فإنّ الديمقراطية التوافقية تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان، لأنها التجسيد الفعلي لروح الدستور ولجوهر ميثاق العيش المشترك.
من هنا فإنّ أي مقاربة للمسائل الوطنية وفق معادلة الأكثرية والأقلية تبقى رهن تحقق الشروط التاريخية والإجتماعية لممارسة الديمقراطية الفعلية التي يصبح فيها المواطن قيمةً بحد ذاته.
إنّ إرادة اللبنانيين في العيش معاً موفوري الكرامة ومتساوي الحقوق والواجبات، تحتّم التعاون البنّاء من أجل تكريس المشاركة الحقيقية والتي تشكّل الصيغة الأنسب لحماية تنوعهم واستقرارهم الكامل بعد حقبة من اللاإستقرار سببتها السياسات المختلفة القائمة على النزوع نحو الإستئثار والإلغاء والإقصاء.
إنّ الديمقراطية التوافقية تشكّل صيغةً سياسيةً ملائمةً لمشاركة حقيقية من قِبَل الجميع، وعامل ثقة مطَمْئِن لمكونات الوطن، وهي تُسهم بشكل كبير في فتح الأبواب للدخول في مرحلة بناء الدولة المطَمْئِنة التي يشعر كل مواطنيها أنها قائمة من أجلهم.
إنّ الدولة التي نتطلع الى المشاركة في بنائها مع بقية اللبنانيين هي:
1- الدولة التي تصون الحريات العامة، وتوفر كل الأجواء الملائمة لممارستها.
2- الدولة التي تحرص على الوحدة الوطنية والتماسك الوطني.
3- الدولة القادرة التي تحمي الأرض والشعب والسيادة والإستقلال، ويكون لها جيش وطني قوي ومقتدر ومجهَّز، ومؤسساتٌ أمنيةٌ فاعلةٌ وحريصةٌ على أمن الناس ومصالحهم.
4- الدولة القائمة في بنيتها على قاعدة المؤسسات الحديثة والفاعلة والمتعاونة، والتي تستند الى صلاحيات ووظائف ومهام واضحة ومحددة.
5- الدولة التي تلتزم تطبيق القوانين على الجميع في إطار احترام الحريات العامة والعدالة في حقوق وواجبات المواطنين، على اختلاف مذاهبهم ومناطقهم واتجاهاتهم.
6- الدولة التي يتوافر فيها تمثيل نيابي سليم وصحيح لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلال قانون انتخابات عصري يتيح للناخب اللبناني أن يختار ممثليه بعيداً عن سيطرة المال والعصبيات والضغوط المختلفة، ويحقق أوسع تمثيل ممكن لمختلف شرائح الشعب اللبناني.
7- الدولة التي تعتمد على أصحاب الكفاءات العلمية والمهارات العملية وأهل النزاهة بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية، والتي تضع آليات فاعلةً وقويةً لتطهير الإدارة من الفساد والفاسدين دون مساومة.
8- الدولة التي تتوافر فيها سلطة قضائية عليا ومستقلة وبعيدة عن تحكّم السياسيين، يمارس فيها قضاة كَفُؤون ونزيهون وأحرارٌ مسؤولياتِهم الخطيرة في إقامة العدل بين الناس.
9- الدولة التي تُقِيْم اقتصادها بشكل رئيس على قاعدة القطاعات المنتِجة، وتعمل على استنهاضها وتعزيزها، وخصوصاً قطاعات الزراعة والصناعة، وإعطائها الحيّز المناسب من الخطط والبرامج والدعم بما يؤدي الى تحسين الإنتاج وتصريفه، وما يوفر فرص العمل الكافية والمناسبة وخاصةً في الأرياف.
10- الدولة التي تعتمد وتطبق مبدأ الإنماء المتوازن بين المناطق، وتعمل على ردم الهوّة الإقتصادية والإجتماعية بينها.
11- الدولة التي تهتم بمواطنيها، وتعمل على توفير الخدمات المناسبة لهم من التعليم والطبابة والسكن الى تأمين الحياة الكريمة، ومعالجة مشكلة الفقر، وتوفير فرص العمل وغير ذلك..
12- الدولة التي تعتني بالأجيال الشابة والصاعدة، وتساعد على تنمية طاقاتِهم ومواهِبهم وتوجيههم نحو الغايات الإنسانية والوطنية، وحمايتهم من الإنحراف والرذيلة.
13- الدولة التي تعمل على تعزيز دور المرأة وتطوير مشاركتها في المجالات كافةً، في إطار الإستفادة من خصوصيتها وتأثيرها واحترام مكانتِها.
14- الدولة التي تُوْلي الوضع التربوي الأهمية المناسبة خصوصاً لجهة الإهتمام بالمدرسة الرسمية، وتعزيز الجامعة اللبنانية على كل صعيد، وتطبيق إلزامية التعليم الى جانب مجّانيته.
15- الدولة التي تعتمد نظاماً إدارياً لا مركزياً يعطي سلطات إداريةً واسعةً للوحدات الإدارية المختلفة (محافظة/ قضاء/ بلدية)، بهدف تعزيز فرص التنمية وتسهيل شؤون ومعاملات المواطنين، دون السماح بتحوّل هذه اللامركزية الإدارية الى نوع من "الفدرلة" لاحقاً.
16- الدولة التي تجهد لوقف الهجرة من الوطن، هجرة الشباب والعائلات وهجرة الكفاءات والأدمغة ضمن مخطط شامل وواقعي.
17- الدولة التي ترعى مواطنيها المغتربين في كل أصقاع العالم، وتدافع عنهم وتحميهم، وتستفيد من انتشارهم ومكانتهم ومواقعهم لخدمة القضايا الوطنية.
إنّ قيام دولة بهذه المواصفات والشروط هدف لنا ولكل لبناني صادق ومخلص، ونحن في حزب الله سنبذل كل جهودنا وبالتعاون مع القوى السياسية والشعبية المختلفة التي تشاركنا هذه الرؤية من أجل تحقيق هذا الهدف الوطني النبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
قال الله تعالى في كتابه المجيد:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (العنكبوت: 69)
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. (المائدة: 35)
تهدف هذه الوثيقة إلى تظهير الرؤية السياسية لحزب الله، حيث تنطوي على ما نراه من تصورات ومواقف وما نختزنه من آمال وطموحات وهواجس، وهي تأتي - قبل أي شيء آخر - نتاجاً لما خبرناه جيداً من أولوية الفعل وأسبقية التضحية.
ففي مرحلة سياسية إستثنائية وحافلة بالتحولات لم يعد ممكناً مقاربة تلك التحولات من دون ملاحظة المكانة الخاصة التي باتت تشغلها مقاومتنا، أو تلك الرزمة من الإنجازات التي حققتها مسيرتنا.
وسيكون ضرورياً إدراج تلك التحولات في سياق المقارنة بين مسارين متناقضين وما بينهما من تناسب عكسي متنامٍ:
1- مسار المقاومة والممانعة في طوره التصاعدي الذي يستند إلى انتصارات عسكرية ونجاحات سياسية وترسُّخ أنموذج المقاومة شعبياً وسياسياً والثبات في المواقع والمواقف السياسية رغم ضخامة الإستهداف وجسامة التحديات.. وصولاً إلى إمالة موازين القوى في المعادلة الإقليمية لصالح المقاومة وداعميها.
2- مسار التسلط والإستكبار الأميركي - الإسرائيلي بأبعاده المختلفة وتحالفاته وامتداداته المباشرة وغير المباشرة والذي يشهد انكسارات أو انهزامات عسكرية وإخفاقات سياسية أظهرت فشلاً متلاحقاً للإستراتيجيات الأميركية ومشاريعها واحداً تلو الآخر، كل ذلك أفضى إلى حالة من التخبط والتراجع والعجز في القدرة على التحكم في مسار التطورات والأحداث في عالمنا العربي والإسلامي.
تتكامل هذه المعطيات في إطار مشهد دُوليّ أوسع، يُسهم بدوره في كشف المأزق الأميركي وتراجع هيمنة القطب الواحد لصالح تعددية لم تستقر ملامحها بعد.
وما يعمّق أزمة النظام الإستكباري العالمي الإنهيارات في الأسواق المالية الأميركية والعالمية ودخول الإقتصاد الأميركي في حالة تخبّط وعجز، والتي تعبِّر عن ذروة تفاقم المأزق البنيوي في الأنموذج الرأسمالي المتغطرس.
لذا يمكن القول: إننا في سياق تحولات تاريخية تُنذر بتراجع الولايات المتحدة الأميركية كقوة مهيمنة، وتحلُّل نظام القطب الواحد المهيمن، وبداية تشكّل مسار الأفول التاريخي المتسارع للكيان الصهيوني.
تقف حركات المقاومة في صُلب هذه التحولات، وتَبرز كمعطى إستراتيجي أساسي في هذا المشهد الدُّولي بعد أن أدت دوراً مركزياً في إنتاج أو تحفيز ما يتصل من تلك التحولات بمنطقتنا.
لقد كانت المقاومة في لبنان ومن ضمنها مقاومتنا الإسلامية سبّاقةً إلى مواجهة الهيمنة والإحتلال قبل ما يزيد على عقدين ونصف من الزمن، وهي تمسكت بهذا الخيار في وقت بدا وكأنه تدشينٌ للعصر الأميركي الذي جرت محاولات تصويره وكأنه نهاية للتاريخ. وفي ظل موازين القوى والظروف السائدة آنذاك إعتبر البعض خيار المقاومة وكأنه ضربُ وهمٍ، أو تهورٌ سياسي أو جنوح مناقض لموجبات العقلانية والواقعية.
رغم ذلك مضت المقاومة في مسيرتها الجهادية وهي على يقين من أحقية قضيتها وقدرتها على صنع الإنتصار، من خلال الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه والإنتماء للأمة جمعاء والإلتزام بالمصالح الوطنية اللبنانية والثقة بشعبها وإعلائها القيم الإنسانية في الحق والعدالة والحرية.
فعلى مدى مسارها الجهادي الطويل وعبر انتصاراتها الموصوفة، بدءاً من دحر الإحتلال الإسرائيلي في بيروت والجبل إلى هروبه من صيدا وصور والنبطية وعدوان تموز 1993 وعدوان نيسان 1996 والتحرير في أيار 2000، فحرب تموز 2006، أرست هذه المقاومة صدقيتها وأنموذجها قبل أن تصنع انتصاراتها، فراكمت حقبات تطوُّر مشروعِها من قوة تحرير إلى قوة توازن ومواجهة ومن ثَمّ إلى قوة ردعٍ ودفاع، مضافاً إلى دورها السياسي الداخلي كركن مؤثّر في بناء الدولة القادرة والعادلة.
بالتزامن مع ذلك، قُدِّر للمقاومة أن تطور مكانتها السياسية والإنسانية، فارتقت من كونها قيمةً وطنيةً لبنانيةً إلى كونها - أيضاً - قيمةً عربيةً وإسلاميةً متألقةً، وقد أصبحت اليوم قيمةً عالميةً وإنسانيةً يجري استلهام أنموذجها والبناء على إنجازاتها في تجارب وأدبيات كل الساعين إلى من أجل الحرية والإستقلال في شتى أنحاء المعمورة.
إنّ حزب الله رغم إدراكه لتلك التحولات الواعدة وما يراه من مراوحة العدو بين عجز استراتيجية الحرب لديه والعجز عن فرض التسويات بشروطه، فإنه لا يستهين بحجم التحديات والمخاطر التي لا تزال ماثلةً، ولا يُقَلِّل من وعورة مسار المواجهة وحجم التضحيات التي تستوجبها مسيرة المقاومة واسترداد الحقوق والمساهمة في استنهاض الأمة، إلاّ أنه - في قبال ذلك - قد بات أشد وضوحاً في خياراته وأمضى عزيمةً في إرادته وأكثر ثقةً بربّه ونفسه وشعبه.
في هذا السياق، يحدِّد حزب الله الخطوط الأساسية التي تشكّل إطاراً فكرياً – سياسياً لرؤيته ومواقفه تجاه التحديات المطروحة.
(الفصل الأول)
الهيمنـة والإستنهـاض
أولاً : العالم والهيمنة الغربية والأميركية
بعد الحرب العالمية الثانية باتت الولايات المتحدة صاحبة مشروع الهيمنة المركزي والأول، وعلى يديها شهد هذا المشروع تطوراً هائلاً في آليات التسلط والإخضاع غير المسبوقة تاريخياً، مستفيدةً في ذلك من حصيلة مركّبة من الإنجازات المتعددة الأوجه والمستويات العلمية والثقافية والمعرفية والتكنولوجية والإقتصادية والعسكرية، والمدعومة بمشروع سياسي إقتصادي لا ينظر إلى العالم إلاّ بوصفه أسواقاً مفتوحةً ومحكومةً لقوانينها الخاصة.
إنّ أخطر ما في منطق الهيمنة الغربي عموماً، والأميركي تحديداً، هو اعتباره منذ الأساس أنه يمتلك العالم وأنّ له حق الهيمنة من منطلق التفوق في أكثر من مجال، ولذا باتت الإستراتيجية التوسعية الغربية - وبخاصة الأميركية - ومع اقترانها بالمشروع الإقتصادي الرأسمالي إستراتيجيةً عالميةَ الطابع، لا حدود لأطماعها وجشعها.
إنّ تحكّم قوى الرأسمالية المتوحشة، المتمثلة على نحوٍ رئيسٍ بشبكات الإحتكارات الدُّولية من شركات عابرة للقوميات بل وللقارات، والمؤسسات الدُّولية المتنوعة، وخصوصاً المالية منها والمدعومة بقوة فائقة عسكرياً، أدى الى المزيد من التناقضات والصراعات الجذرية، ليس أقلها اليوم: صراعات الهويات والثقافات وأنماط الحضارات، إلى جانب صراعات الغنى والفقر.
لقد حولت الرأسمالية المتوحشة العولمة إلى آلية لبث التفرقة وزرع الشقاق وتدمير الهويات وفرض أخطر أنواع الإستلاب الثقافي والحضاري والإقتصادي والإجتماعي.
وقد بلغت العولمة حدَّها الأخطر مع تحولها إلى عولمة عسكرية على أيدي حاملي مشروع الهيمنة الغربي، والتي شهدنا أكثر تعبيراتها في منطقة الشرق الأوسط بدءاً من أفغانستان إلى العراق وفلسطين فلبنان، الذي كان نصيبه منها عدواناً شاملاً في تموز العام 2006 وذلك باليد الإسرائيلية.
لم يبلغ مشروع الهيمنة والتسلط الأميركي مستويات خطرةً كما بلغها مؤخراً، لا سيما منذ العقد الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم، وذلك في مسار تصاعدي إتخذ من سقوط الإتحاد السوفياتي وتفككه نقطة انطلاق، لما شكّله من فرصة تاريخية في الحسابات الأميركية للإستفراد بقيادة مشروع الهيمنة عالمياً، وذلك باسم المسؤولية التاريخية وبأنّ لا تمييز بين مصلحة العالم والمصلحة الأميركية، ما يعني تسويق الهيمنة كمصلحة لباقي الدول والشعوب لا بوصفها مصلحةً أميركيةً بحتةً.
لقد بلغ هذا المسار ذروته مع إمساك تيار المحافظين الجدد بمفاصل إدارة "بوش" الابن، هذا التيار الذي عبّر عن رؤاه الخاصة من خلال وثيقة "مشروع القرن الأميركي الجديد" التي كُتبت ما قبل إجراء الإنتخابات الأميركية عام 2000، ليجد المشروع طريقه إلى التنفيذ بُعيد استلام إدارة "بوش" الابن السلطة في الولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن غريباً ولا مفاجئاً أن يكون أكثر ما أكدت عليه هذه الوثيقة - التي سرعان ما باتت دليل العمل لإدارة "بوش" - مسألة إعادة بناء القدرات الأميركية، والتي عكست رؤيةً استراتيجيةً جديدةً للأمن القومي الأميركي، بدا واضحاً تماماً أنها ترتكز على بناء قدرات عسكرية ليس باعتبارها قوة ردع فقط وإنما أيضاً باعتبارها قوة فعل وتدخّل، سواء للقيام بعمليات "وقائية" عن طريق توجيه ضربات إستباقية أم لأغراض علاجية من خلال التعامل مع الأزمات بعد وقوعها.
وجدت إدارة "بوش" بُعيد أحداث 11 أيلول 2001، أنها أمام فرصة سانحة لممارسة أكبر قَدْر من النفوذ والتأثير، من خلال وضع رؤيتها الإستراتيجية للهيمنة المنفردة على العالم موضع التطبيق تحت شعار "الحرب الكونية على الإرهاب" وهكذا قامت هذه الإدارة بمحاولات إعتُبرت ناجحةً في بدايتها وفق التالي:
1- عسكرة علاقاتها وسياساتها الخارجية إلى الحد الأقصى.
2- تجنّب الإعتماد على الأطر المتعددة الأطراف، والإنفراد باتخاذ القرارات الإستراتيجية، والتنسيق حيث هناك ضرورة، ومع حلفاء يمكن الركون إليهم.
3- حسم الحرب في أفغانستان بسرعة للتفرغ بعد ذلك للخطوة التالية والأهم في مشروع الهيمنة ألا وهي: السيطرة على العراق، الذي اعتُبر نقطة الإرتكاز الرئيسة لإقامة شرق أوسط جديد يتناسب مع متطلبات عالم ما بعد 11 أيلول. ولم تتورع هذه الإدارة عن اللجوء إلى كل أساليب التمويه والخداع والكذب الصريح لتبرير حروبها، لا سيما الحرب على العراق، وضد كل مَن يقاوم مشروعَها الإستعماري الجديد من دول وحركات وقوى وشخصيات. وفي هذا الإطار عمدت هذه الإدارة إلى إقامة تطابق بين "مقولة الإرهاب" و"مقولة المقاومة" لتنزع عن المقاومة شرعيتها الإنسانية والحقوقية، وتبرّر بالتالي خوض الحروب على أنواعها ضدها، في سياق إزالة آخر حصون دفاع الشعوب والدول عن حقها بالعيش بحرية وكرامة وعزة، وعن حقها بسيادة غير منقوصة وببناء تجاربها الخاصة وأخذ مواقعها وأدوارها في حركة التاريخ الإنساني حضارياً وثقافياً.
لقد تحوّل عنوان "الإرهاب" إلى ذريعة أميركية للهيمنة من خلال أدوات: الملاحقة/ الضبط والإعتقال التعسفي/ إفتقاد أبسط مقومات المحاكمات العادلة، كما نجدها في معتقلات "غوانتنامو"، ومن خلال التدخل المباشر في سيادة الدول وتحويلها إلى ماركة مسجلة للتجريم التعسفي واتخاذ إجراءات معاقَبة تطال شعوباً بأسرها، وصولاً إلى منح نفسها حقاً مطلقاً بشن حروب تدميرية وماحقة لا تميز بين البريء والمجرم، ولا بين الطفل والشيخ والمرأة والشاب.
لقد بلغت كلفة حروب الإرهاب الأميركية حتى الآن الملايين من البشر فضلاً عن مظاهر الدمار الشاملة، التي لم تُصِب الحجر والبنى التحتية فحسب وإنما بنية ومكونات المجتمعات نفسها، حيث جرى تفكيكها، وعَكْس مسار تطورها التاريخي، في عملية ارتكاس أعادت إنتاج صراعات أهلية ذات أبعاد مذهبية وطائفية وعرقية لا تنتهي. هذا من غير أن ننسى استهداف المخزون الثقافي والحضاري لهذه الشعوب.
لا شك أنّ الإرهاب الأميركي هو أصل كل إرهاب في العالم، وقد حولت إدارة "بوش" الولايات المتحدة إلى خطر يتهدد العالم بأسره على كل الصعد والمستويات. ولو جرى اليوم استطلاع عالمي للرأي لظهرت الولايات المتحدة كأكثر دولة مكروهة في العالم.
إنّ الإخفاق الذي مُنيت به الحرب على العراق وتطور حالة المقاومة فيه والإمتعاض الإقليمي والدُّولي من نتائج هذه الحرب، وفشل ما يسمى "الحرب على الإرهاب" خصوصاً في أفغانستان إلى تسجيل عودة قوية لحركة طالبان واعتراف بدورها والسعي لعقد تسويات معها، وكذلك الفشل الذريع للحرب الأميركية على المقاومة في لبنان وفلسطين بأدوات إسرائيلية، أدت إلى تآكل الهيبة الأميركية دُوليّاً وإلى تراجع استراتيجي في قدرة الولايات المتحدة على الفعل أو خوض المغامرات الجديدة.
إلاّ أنّ ما تقدَّم لا يعني بأنّ الولايات المتحدة ستُخْلي الساحة بسهولة بل ستقوم بكل ما يلزم من أجل حماية ما تسمّيه "مصالحها الإستراتيجية"، ذلك لأنّ سياسات الهيمنة الأميركية تنهض على اعتبارات إيديولوجية ومشاريع فكرية تغذّيها اتجاهاتٌ متطرفةٌ متحالفةٌ مع مركّب صناعي – عسكري لا حدود لجشعه وأطماعه.
ثانياً : منطقتنا والمشروع الأميركي
إذا كان العالم المستضعَف بأسره يرزح تحت نير هذه الهيمنة الإستكبارية، فإنّ عالمنا العربي والإسلامي يناله منها القسط الأوفر والأثقل، لدواعي تاريخه وحضارته وموارده وموقعه الجغرافي.
إنّ عالمنا العربي والإسلامي هو منذ قرون عرضةً لحروب إستعمارية وحشية لا تنتهي، إلاّ أنّ مراحلها الأكثر تقدماً بدأت مع زرع الكيان الصهيوني في المنطقة، ومن ضمن مشروع تفتيتها إلى كيانات متصارعة ومتنابذة تحت عناوين شتى. ولقد بلغت ذروة هذه المرحلة الإستعمارية مع وراثة الولايات المتحدة للإستعمار القديم في المنطقة.
يتمثل الهدف المركزي الأبرز للإستكبار الأميركي بالسيطرة على الشعوب بكل أشكالها: السياسية والإقتصادية والثقافية ونهب ثرواتها ويأتي في الطليعة نهب الثروة النفطية بما هي أداة رئيسة للتحكم بروح الإقتصاد العالمي، وبكل الأساليب التي لا تلتزم أي ضوابط أو معايير أخلاقية أو إنسانية، بما فيها استخدام القوة العسكرية المفرِطة، مباشرة أو بالواسطة.
وقد اعتمدت أميركا لتحقيق هدفها سياسات عامةً واستراتيجيات عمل، أبرزها:
1- توفير كل سبل ضمان الإستقرار للكيان الصهيوني، بما هو قاعدة متقدمة ونقطة ارتكاز للمشروع الأميركي الإستعماري والتفتيتي للمنطقة، ودعم هذا الكيان بكل عوامل القوة والإستمرار، وتوفير شبكة أمان لوجوده، ما يؤهله للعب دور الغدة السرطانية التي تستنزف قدرات الأمة وطاقاتها وتبعثر إمكاناتها وتشتت آمالَها وتطلعاتها.
2- تقويض الإمكانات الروحية والحضارية والثقافية لشعوبنا والعمل على إضعاف روحها المعنوية عبر بث حروب إعلامية ونفسية تطال قيمها ورموز جهادها ومقاومتها.
3- دعم أنظمة التبعية والإستبداد في المنطقة.
4- الإمساك بالمواقع الجغرافية الإستراتيجية للمنطقة، لما تشكّله من عقدة وَصْلٍ وفصل، براً وبحراً وجواً، ونشر القواعد العسكرية في مفاصلها الحيوية خدمةً لحروبها ودعماً لأدواتها.
5- منع قيام أي نهضة في المنطقة تسمح بامتلاك أسباب القوة والتقدم أو تلعب دوراً تاريخياً على مستوى العالم.
6- زرع الفتن والإنقسامات على أنواعها، لا سيما الفتن المذهبية بين المسلمين، لإنتاج صراعات أهلية داخلية لا تنتهي.
من الواضح أنه لا مجال اليوم لقراءة أي صراع في أي منطقة من مناطق العالم إلاّ من منظار إستراتيجي عالمي، فالخطر الأميركي ليس خطراً محلياً أو مختصاً بمنطقة دون أخرى، وبالتالي فإنّ جبهة المواجهة لهذا الخطر الأميركي يجب أن تكون عالميةً أيضاً.
ولا شك بأنّ هذه المواجهة صعبةٌ ودقيقةٌ، وهي معركةٌ ذات مدًى تاريخي، وهي بالتالي معركة أجيال وتستلزم الإستفادة من كل قوة مفترَضة، ولقد علّمتنا تجربتنا في لبنان أنّ الصعوبة لا تعني الإستحالة بل بالعكس فإنّ شعوباً حيةً ومتفاعِلةً، وقيادةً حكيمةً وواعيةً ومستعدةً لكل الإحتمالات تراهن على تراكم الإنجازات، تصنع النصر تلو النصر. وبقدر ما يصح هذا الأمر عمودياً عبر التاريخ فهو يصـح أفقيـاً بالإمتـداد الجغـرافي والجيو-سياسي أيضاً.
لم يترك الإستكبار الأميركي لأمتنا وشعوبها من خيار إلاّ خيار المقاومة، من أجل حياة أفضل، ومن أجل مستقبل بشري وإنساني أفضل، مستقبل محكوم بعلاقات من الأخوّة والتنوع والتكافل في آن، ويسوده السلام والوئام، تماماً كما رَسَمَت معالِمَه حركةُ الأنبياء والمصلحين العظام عبر التاريخ، وكما هو في تطلعات وأشواق الروح الإنسانية الحقة والمتسامية.
(الفصل الثاني)
لبـــــــــنان
أولاً : الوطــن
إنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم.
ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو "الفدرلة" الصريحة أو المقنَّعة. ونريده سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ.
ومن أهم الشروط لقيام وطن من هذا النوع واستمراره أن تكون له دولةٌ عادلةٌ وقادرةٌ وقويةٌ، ونظامٌ سياسيٌ يمثّل بحق إرادة الشعب وتطلعاته الى العدالة والحرية والأمن والإستقرار والرفاه والكرامة، وهذا ما ينشده كل اللبنانيين ويعملون من أجل تحقيقه ونحن منهم.
ثانياً : المقـاومـة
تمثّل "إسرائيل" تهديداً دائماً للبنان - الدولة والكيان - وخطراً داهماً عليه لجهة أطماعها التاريخية في أرضه ومياهه، وبما هو أنموذج لتعايش أتباع الرسالات السماوية، في صيغة فريدة، ووطن نقيض لفكرة الدولة العنصرية التي تتمظهر في الكيان الصهيوني. فضلاً عن ذلك فإنّ وجود لبنان على حدود فلسطين المحتلة، وفي منطقة مضطربة جراء الصراع مع العدو الإسرائيلي، حتّم على هذا البلد تحمّل مسؤوليات وطنيةً وقوميةً.
بدأ التهديد الإسرائيلي لهذا الوطن منذ أن زُرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وهو كيانٌ لم يتوانَ عن الإفصاح عن أطماعه بأرض لبنان لضم أجزاء منه، والإستيلاء على خيراته وثرواته وفي مقدمتها مياهه، وحاول تحقيق هذه الأطماع تدريجياً.
باشر هذا الكيان عدوانه منذ العام 1948، من الحدود إلى عمق الوطن، من مجزرة حولا عام 1949 إلى العدوان على مطار بيروت الدُّولي عام 1968، وما بينهما سنوات طويلة من الإعتداءات على مناطق الحدود، بأرضها وسكانها وثرواتها، كمقدمة للإستيلاء المباشر على الأرض عن طريق الإجتياحات المتكررة، وصولاً إلى اجتياح آذار 1978 واحتلال منطقة الحدود وإخضاعها لسلطته الأمنية والسياسية والإقتصادية في إطار مشروع متكامل، تمهيداً لإخضاع الوطن كلّه في اجتياح العام 1982.
كل ذلك كان يجري بدعم كامل من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية، وتجاهل إلى حدّ التواطؤ من قِبَل ما يُعرف بـ"المجتمع الدُّولي" ومؤسساته الدُّولية، وفي ظل صمت رسمي عربي مريب, وغياب للسلطة اللبنانية التي تركت أرضَها وشعَبها نهباً للمجازر والإحتلال الإسرائيلي من دون أن تتحمل مسؤلياتها وواجباتها الوطنية.
في ظل هذه المأساة الوطنية الكبرى، ومعاناة الشعب وغياب دولته وتخلّي العالم عنه، لم يجد اللبنانيون المخلصون لوطنهم سوى استخدام حقهم، والإنطلاق من واجبهم الوطني والأخلاقي والديني في الدفاع عن أرضهم، فكان خيارهم: إطلاق مقاومة شعبية مسلّحة لمواجهة الخطر الصهيوني والعدوان الدائم على حياتهم وأرزاقهم ومستقبلهم.
في تلك الظروف الصعبة، حيث افتقد اللبنانيون الدولة بدأت مسيرة استعادة الوطن من خلال المقاومة المسلّحة، وذلك بتحرير الأرض والقرار السياسي من يد الإحتلال الإسرائيلي كمقدمة لاستعادة الدولة وبناء مؤسساتها الدستورية، والأهم من ذلك كلّه إعادة تأسيس القيم الوطنية التي يُبنى عليها الوطن وفي طليعتها: السيادة والكرامة الوطنيتان، ما أعطى لقيمة الحرية بُعدَها الحقيقي، فلم تبقَ مجرد شعار معلَّق بل كرّستها المقاومة بفعل تحرير الأرض والإنسان وتحولت هذه القيم الوطنية إلى مدماك أساس لبناء لبنان الحديث، فحجزت موقعه على خارطة العالم وأعادت الإعتبار إليه كبلد يَفرِِض احترامَه ويفتخر أبناؤه بالإنتماء إليه بما هو وطن للحرية والثقافة والعلم والتنوع كما هو وطن العنفوان والكرامة والتضحية والبطولة. إنّ هذه الأبعاد مجتمعةً توّجتها المقاومة من خلال ما أنجزته من تحرير في العام 2000 ومن انتصار تاريخي في حرب تموز عام 2006، والذي قدّمت فيهما تجربةً حيةً للدفاع عن الوطن، تجربةً تحوّلت إلى مدرسة تستفيد منها الشعوب والدول في الدفاع عن أرضها وحماية استقلالها وصون سيادتها.
تَحقَّقََ هذا الإنجاز الوطني للمقاومة بمؤازرة شعب وفيّ وجيش وطنيّ، وأَحبطَ أهدافَ العدو وأوقعَ به هزيمةً تاريخيةً، لِتَخْرج المقاومة بمجاهديها وشهدائها ومعها لبنان بشعبه وجيشه بانتصار عظيم أسّس لمرحلة جديدة في المنطقة عنوانها محورية المقاومة دوراً ووظيفةً في ردع العدو وتأمين الحماية لاستقلال الوطن وسيادته والدفاع عن شعبه واستكمال تحرير بقية الأرض المحتلة.
إنّ هذا الدور وهذه الوظيفة ضرورةٌ وطنيةٌ دائمةٌ دوام التهديد الإسرائيلي ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو - الخلل الذي يدفع عادةً الدول الضعيفة والشعوب المستهدفة من أطماع وتهديدات الدول المتسلطة والقـوية، إلـى البحث عن صيغ تستفيد من القدرات والإمكانات المتاحة - فإنّ التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومة شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيش وطني يحمي الوطن ويثبّت أمنه واستقراره، في عملية تكامل أثبتت المرحلة الماضية نجاحها في إدارة الصراع مع العدو وحققت انتصارات للبنان ووفرت سبل الحماية له.
هذه الصيغة، التي توضع من ضمن استراتيجية دفاعية، تشكّل مظلّة الحماية للبنان، بعد فشل الرهانات على المظلات الأخرى، سواء أكانت دُوليّة أم عربية أم تفاوضية مع العدو، فانتهاج خيار المقاومة حقّق للبنان تحريراً للأرض واستعادةً لمؤسسات الدولة وحمايةً للسيادة وإنجازاً للإستقلال الحقيقي. في هذا الإطار فإنّ اللبنانيين بقواهم السياسية وشرائحِهم الإجتماعية ونُخَبِهم الثقافية وهيئاتِهم الإقتصادية، معنيون بالحفاظ على هذه الصيغة والإنخراط فيها، لأنّ الخطر الإسرائيلي يتهدّد لبنان بكل مكوناته ومقوماته، وهذا ما يتطلّب أوسع مشاركة لبنانية في تحمّل مسؤوليات الدفاع عن الوطن وتوفير سبل الحماية له.
إنّ نجاح تجربة المقاومة في التصدي للعدو، وفشل كل المخططات والحروب للقضاء عليها أو محاصرة خيارها ونزع سلاحها من جهة، واستمرار الخطر الإسرائيلي على لبنان وعدم زوال التهديد عنه من جهةٍ أخرى يَفرض على المقاومة السعي الدؤوب لامتلاك أسباب القوة وتعزيز قدراتها وإمكاناتها بما يساعد على تأدية واجبها والقيام بمسؤولياتها الوطنية، للمساهمة في استكمال مهمة تحرير ما تبقّى من أرضنا تحت الإحتلال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر اللبنانية، واستنقاذ مَن بقي من أسرى ومفقودين وأجساد الشهداء، والمشاركة في وظيفة الدفاع والحماية للأرض والشعب.
ثالثاً : الدولة والنظام السياسي
إنّ المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني، والتي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه بشكل مستمر هي الطائفية السياسية. كما أنّ قيام النظام على أسس طائفية يشكّل عائقاً قوياً أمام تحقيق ديمقراطية صحيحة يمكن على ضوئها أن تحكم الأكثرية المنتخَبة وتعارض الأقلية المنتخَبة، ويُفتح فيها الباب لتداول سليم للسلطة بين الموالاة والمعارضة أو الإئتلافات السياسية المختلفة. ولذلك فإنّ الشرط الأساس لتطبيق ديمقراطية حقيقية من هذا النوع هو إلغاء الطائفية السياسية من النظام، وهو ما نص "اتفاق الطائف" على وجوب تشكيل هيئة وطنية عليا لإنجازه.
وإلى أن يتمكن اللبنانيون ومن خلال حوارهم الوطني من تحقيق هذا الإنجاز التاريخي والحساس - نعني إلغاء الطائفية السياسية - وطالما أنّ النظام السياسي يقوم على أسس طائفية فإنّ الديمقراطية التوافقية تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان، لأنها التجسيد الفعلي لروح الدستور ولجوهر ميثاق العيش المشترك.
من هنا فإنّ أي مقاربة للمسائل الوطنية وفق معادلة الأكثرية والأقلية تبقى رهن تحقق الشروط التاريخية والإجتماعية لممارسة الديمقراطية الفعلية التي يصبح فيها المواطن قيمةً بحد ذاته.
إنّ إرادة اللبنانيين في العيش معاً موفوري الكرامة ومتساوي الحقوق والواجبات، تحتّم التعاون البنّاء من أجل تكريس المشاركة الحقيقية والتي تشكّل الصيغة الأنسب لحماية تنوعهم واستقرارهم الكامل بعد حقبة من اللاإستقرار سببتها السياسات المختلفة القائمة على النزوع نحو الإستئثار والإلغاء والإقصاء.
إنّ الديمقراطية التوافقية تشكّل صيغةً سياسيةً ملائمةً لمشاركة حقيقية من قِبَل الجميع، وعامل ثقة مطَمْئِن لمكونات الوطن، وهي تُسهم بشكل كبير في فتح الأبواب للدخول في مرحلة بناء الدولة المطَمْئِنة التي يشعر كل مواطنيها أنها قائمة من أجلهم.
إنّ الدولة التي نتطلع الى المشاركة في بنائها مع بقية اللبنانيين هي:
1- الدولة التي تصون الحريات العامة، وتوفر كل الأجواء الملائمة لممارستها.
2- الدولة التي تحرص على الوحدة الوطنية والتماسك الوطني.
3- الدولة القادرة التي تحمي الأرض والشعب والسيادة والإستقلال، ويكون لها جيش وطني قوي ومقتدر ومجهَّز، ومؤسساتٌ أمنيةٌ فاعلةٌ وحريصةٌ على أمن الناس ومصالحهم.
4- الدولة القائمة في بنيتها على قاعدة المؤسسات الحديثة والفاعلة والمتعاونة، والتي تستند الى صلاحيات ووظائف ومهام واضحة ومحددة.
5- الدولة التي تلتزم تطبيق القوانين على الجميع في إطار احترام الحريات العامة والعدالة في حقوق وواجبات المواطنين، على اختلاف مذاهبهم ومناطقهم واتجاهاتهم.
6- الدولة التي يتوافر فيها تمثيل نيابي سليم وصحيح لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلال قانون انتخابات عصري يتيح للناخب اللبناني أن يختار ممثليه بعيداً عن سيطرة المال والعصبيات والضغوط المختلفة، ويحقق أوسع تمثيل ممكن لمختلف شرائح الشعب اللبناني.
7- الدولة التي تعتمد على أصحاب الكفاءات العلمية والمهارات العملية وأهل النزاهة بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية، والتي تضع آليات فاعلةً وقويةً لتطهير الإدارة من الفساد والفاسدين دون مساومة.
8- الدولة التي تتوافر فيها سلطة قضائية عليا ومستقلة وبعيدة عن تحكّم السياسيين، يمارس فيها قضاة كَفُؤون ونزيهون وأحرارٌ مسؤولياتِهم الخطيرة في إقامة العدل بين الناس.
9- الدولة التي تُقِيْم اقتصادها بشكل رئيس على قاعدة القطاعات المنتِجة، وتعمل على استنهاضها وتعزيزها، وخصوصاً قطاعات الزراعة والصناعة، وإعطائها الحيّز المناسب من الخطط والبرامج والدعم بما يؤدي الى تحسين الإنتاج وتصريفه، وما يوفر فرص العمل الكافية والمناسبة وخاصةً في الأرياف.
10- الدولة التي تعتمد وتطبق مبدأ الإنماء المتوازن بين المناطق، وتعمل على ردم الهوّة الإقتصادية والإجتماعية بينها.
11- الدولة التي تهتم بمواطنيها، وتعمل على توفير الخدمات المناسبة لهم من التعليم والطبابة والسكن الى تأمين الحياة الكريمة، ومعالجة مشكلة الفقر، وتوفير فرص العمل وغير ذلك..
12- الدولة التي تعتني بالأجيال الشابة والصاعدة، وتساعد على تنمية طاقاتِهم ومواهِبهم وتوجيههم نحو الغايات الإنسانية والوطنية، وحمايتهم من الإنحراف والرذيلة.
13- الدولة التي تعمل على تعزيز دور المرأة وتطوير مشاركتها في المجالات كافةً، في إطار الإستفادة من خصوصيتها وتأثيرها واحترام مكانتِها.
14- الدولة التي تُوْلي الوضع التربوي الأهمية المناسبة خصوصاً لجهة الإهتمام بالمدرسة الرسمية، وتعزيز الجامعة اللبنانية على كل صعيد، وتطبيق إلزامية التعليم الى جانب مجّانيته.
15- الدولة التي تعتمد نظاماً إدارياً لا مركزياً يعطي سلطات إداريةً واسعةً للوحدات الإدارية المختلفة (محافظة/ قضاء/ بلدية)، بهدف تعزيز فرص التنمية وتسهيل شؤون ومعاملات المواطنين، دون السماح بتحوّل هذه اللامركزية الإدارية الى نوع من "الفدرلة" لاحقاً.
16- الدولة التي تجهد لوقف الهجرة من الوطن، هجرة الشباب والعائلات وهجرة الكفاءات والأدمغة ضمن مخطط شامل وواقعي.
17- الدولة التي ترعى مواطنيها المغتربين في كل أصقاع العالم، وتدافع عنهم وتحميهم، وتستفيد من انتشارهم ومكانتهم ومواقعهم لخدمة القضايا الوطنية.
إنّ قيام دولة بهذه المواصفات والشروط هدف لنا ولكل لبناني صادق ومخلص، ونحن في حزب الله سنبذل كل جهودنا وبالتعاون مع القوى السياسية والشعبية المختلفة التي تشاركنا هذه الرؤية من أجل تحقيق هذا الهدف الوطني النبيل.